ثقافة معركة جو روجان وزاهى حواس بين بضاعة العلم الزائف واحتكار العالم الواحد

جدو سامى 🕊️ 𓁈

كبير المشرفين
إدارة ميلفات
كبير المشرفين
كاتب حصري
مستر ميلفاوي
ميلفاوي واكل الجو
ناشر قصص
ناشر صور
ناشر أفلام
فضفضاوي عالمي
ميلفاوي حريف سكس
ميلفاوي كوميدي
إستشاري مميز
شاعر ميلفات
ناشر موسيقي
ميلفاوي سينماوي
ميلفاوي نشيط
ناشر قصص مصورة
نجم ميلفات
ملك الصور
ناقد قصصي
فضفضاوي أسطورة
ميلفاوي مثقف
ميلفاوي علي قديمو
ميلفاوي ساحر
كاتب مميز
كاتب خبير
إنضم
20 يوليو 2023
المشاركات
8,783
مستوى التفاعل
2,954
النقاط
62
نقاط
13,642
النوع
ذكر
الميول
طبيعي
داخل استوديو “تجربة جو روغان” في أوستن، جلس د. زاهي حواس تحت أضواء كاشفة تعكس شَرَر سيجارته، فيما بدا مضيفه حريصًا على جرّ الحوار إلى المنطقة المفضّلة لديه: أسطورة أطلانتس وكائناتٍ فضائيةٍ يُزعَم أنها أهدت المصريين أسرار البناء الحجري. حين لوّح روغان بهذه الفرضيات، رفضها حواس بشدة واصفًا إياها بـ”الهراء” والعلم الزائف، لكن ما بدا نصرًا عابرًا لحواس انقلب سريعًا إلى مرآة تُظهِر مفارقة أعمق. فحين طالبه روغان بصورٍ أو أوراقٍ محكَّمة تثبت روايته عن دفاتر العمَّال في وادي الجرف، أحاله إلى كتبه المطبوعة غير المتاحة رقميًّا، وكأنّ الدليل يسكن رفوف مكتبته وحده.

هنا انكشفت المفارقة: عالمٌ يرفض “مؤامرات الفضائيين” بينما يرسِّخ – من دون قصد- هيمنةً فرديّةً تخنق حقل المصريات. فمنذ صعوده البارز في مطلع الألفية، وُجّهت انتقادات للدكتور زاهي حواس تتعلق بما وصفه البعض بهيمنته على المنابر الإعلامية الخاصة بالإعلان عن الاكتشافات، وهو ما اعتُبر أنه قلل من فرص بروز باحثين مصريين آخرين، وبالقدر نفسه من الزخم الإعلامي، يشكّ كثر في أن “البرنيطة” لا تحجب السماء فحسب، بل تحجب أسماء جيلٍ كاملٍ من علماء الآثار المغمورين. وهكذا صار الاستوديو محكمةً تدين الطرفين معًا: روجان يُعيد تدوير خرافات أطلانتس بلا مُسند، وحواس يواجهها بثقة استعراضية تَحولُ اكتشافات مصر إلى عروض البرنيطة – فرجةٌ تعتمد جاذبية الشخصية لا آليات النشر المفتوح. فتبدّى السؤال الأكثر إلحاحًا: إذا كانت أساطير روجان تضرّ بالحقيقة التاريخية، أفلا يضرّ احتكار حواس أكثر بآليّة إنتاج تلك الحقيقة نفسها؟
مقالي على موقع درج، أتمنى أكون قدمت فيه زاوية قراءة جديدة، رابط المقال بالكامل أول تعليق





معركة جو روجان وزاهي حواس بين بضاعة العلم الزائف واحتكار العالِم الواحد

أحمد الفخراني - كاتب وروائي مصري

مصر

29.05.2025

زمن القراءة: 18 minutes

لعلّ المعضلة الأبرز في تلك المواجهة كانت أن كلًا منهما جاء مستعدًّا لمعركة مختلفة. حواس حضّر نفسه ليكون المحاضر الذي يصحح المفاهيم الخاطئة أمام جمهور عالمي، فجاء مسلحًا بقوائم من الاكتشافات والوقائع: من تاريخ بناء الهرم الأكبر في عهد خوفو نحو 2500 ق.م. بالدليل الكتابي، إلى أسماء فرق العمال المنقوشة داخل الأهرام (“أصدقاء خوفو” وغيرها) التي تثبت نسبة البناء لأصحابه. أما روجان، فقد حضّر نفسه لدور المُشاكِس، معتمدًا على معرفته السطحية المستندة الى أصحاب النظريات الزائفة.*

داخل استوديو “تجربة جو روغان” في أوستن، جلس د. زاهي حواس تحت أضواء كاشفة تعكس شَرَر سيجارته، فيما بدا مضيفه حريصًا على جرّ الحوار إلى المنطقة المفضّلة لديه: أسطورة أطلانتس وكائناتٍ فضائيةٍ يُزعَم أنها أهدت المصريين أسرار البناء الحجري. حين لوّح روغان بهذه الفرضيات، رفضها حواس بشدة واصفًا إياها بـ”الهراء” والعلم الزائف، لكن ما بدا نصرًا عابرًا لحواس انقلب سريعًا إلى مرآة تُظهِر مفارقة أعمق. فحين طالبه روغان بصورٍ أو أوراقٍ محكَّمة تثبت روايته عن دفاتر العمَّال في وادي الجرف، أحاله إلى كتبه المطبوعة غير المتاحة رقميًّا، وكأنّ الدليل يسكن رفوف مكتبته وحده.*

هنا انكشفت المفارقة: عالمٌ يرفض “مؤامرات الفضائيين” بينما يرسِّخ – من دون قصد- هيمنةً فرديّةً تخنق حقل المصريات. فمنذ صعوده البارز في مطلع الألفية، وُجّهت انتقادات للدكتور زاهي حواس تتعلق بما وصفه البعض بهيمنته على المنابر الإعلامية الخاصة بالإعلان عن الاكتشافات، وهو ما اعتُبر أنه قلل من فرص بروز باحثين مصريين آخرين، وبالقدر نفسه من الزخم الإعلامي، يشكّ كثر في أن “البرنيطة” لا تحجب السماء فحسب، بل تحجب أسماء جيلٍ كاملٍ من علماء الآثار المغمورين. وهكذا صار الاستوديو محكمةً تدين الطرفين معًا: روجان يُعيد تدوير خرافات أطلانتس بلا مُسند، وحواس يواجهها بثقة استعراضية تَحولُ اكتشافات مصر إلى عروض البرنيطة – فرجةٌ تعتمد جاذبية الشخصية لا آليات النشر المفتوح. فتبدّى السؤال الأكثر إلحاحًا: إذا كانت أساطير روجان تضرّ بالحقيقة التاريخية، أفلا يضرّ احتكار حواس أكثر بآليّة إنتاج تلك الحقيقة نفسها؟

في الاستوديو: مواجهة علميّة وأحاديث متقاطعة

خلال الدقائق الأولى، حاول حواس فرض أسلوبه؛ فهو معتاد على مخاطبة الجمهور كمن يُلقي محاضرة أكثر منه الدخول في مناظرة. أخذ يسرد منجزاته واكتشافاته طوال 57 عامًا أمضاها في مواقع الحفريات حول الأهرام، مستشهِدًا بأدلة أثرية ووثائق تاريخية لدحض الأساطير الشعبية. شرح كيف بُنيت الأهرامات بسواعد العمّال المصريين المهرة ضمن فرق منظمة، مستدلًا بورق البردي المكتشَف في وادي الجرف، والذي يحتوي على مذكرات رئيس عمّال يُدعى “مِرِر” يصف نقل كتل الحجر الجيري لبناء هرم خوفو. كما أكّد العثور على مقابر للعمال وأدوات من الديوريت والصوّان، وكلها تشير إلى أن المصريين أنفسهم شيدوا تلك المعجزات بالعمل الشاق والتنظيم الدقيق – من دون حاجة إلى عمالة عبيد أو تدخل مخلوقات أسطورية.

جو روجان، االذي حوّل برنامجه إلى مكبّ نظريات زائفة يتعاطاها ملايين المستمعين باعتبارها “حوارًا حرًّا” ، بدا هذه المرة أقل اقتناعًا مما يفعل عادة مع ضيوفه. فمنذ الدقيقة الأولى، التقط المستمعون نبرة جافة في صوته وإشارات غير معتادة بلغة جسده. حاول روجان مرارًا مقاطعة حواس بأسئلة مباغتة، مستندًا إلى ما سمعه في حلقات سابقة من برنامجه مع شخصيات مثيرة للجدل في علم الآثار البديل. فعندما أكد حواس “ألا حضارات مفقودة قبل المصريين”، وأن كل ما يُشاع غير موثق علميًّا، ذكّره روجان بأطروحات الكاتب غراهام هانكوك عن حضارة متقدمة اندثرت في العصر الجليدي الأخير. لم يُخفِ حواس ازدراءه تلك الأفكار، واصفًا إياها بأنها “هراء كامل” لا يرتكز إلى أي أدلة. ومع احتدام السجال، لم تعد المناظرة سوى صدام بين رجل يحتكر الكاميرات ويقدّم اكتشافات مصر بوصفها عروضًا شخصية تلمّع صورته أكثر مما تغذّي البحث الحقيقي، وبين مضيفٍ يتربّح من إعادة تدوير أخطر نظريات المؤامرة وبيعها لجمهورٍ جائع لأيّ سرّ مدفون.

لعلّ المعضلة الأبرز في تلك المواجهة كانت أن كلًا منهما جاء مستعدًّا لمعركة مختلفة. حواس حضّر نفسه ليكون المحاضر الذي يصحح المفاهيم الخاطئة أمام جمهور عالمي، فجاء مسلحًا بقوائم من الاكتشافات والوقائع: من تاريخ بناء الهرم الأكبر في عهد خوفو نحو 2500 ق.م. بالدليل الكتابي، إلى أسماء فرق العمال المنقوشة داخل الأهرام (“أصدقاء خوفو” وغيرها) التي تثبت نسبة البناء لأصحابه. أما روجان، فقد حضّر نفسه لدور المُشاكِس، معتمدًا على معرفته السطحية المستندة الى أصحاب النظريات الزائفة.*

بدا وكأنه ينتظر أي ثغرة أو اعتراف من حواس يمكن أن يفتح الباب أمام “فرضيات بديلة” يحب جمهوره سماعها. وعندما لم يجد روجان مبتغاه بسهولة، لجأ إلى أسئلة استفزازية: عن مدى دقة التأريخ بالكربون المشعّ (والذي ردّ عليه حواس بأنه يفضّل التأريخ المطلق عبر الأدلة الكتابية والنقوش لضبط عمر الأهرامات)، وعن إمكان وجود غرف سرية لم تُكتشف بعد داخل الهرم (أجاب حواس بحزم أنه لا دليل علميّ على ذلك حتى الآن).*

مع تقدم الحلقة، تراكمت لحظات التوتر وحتى الفكاهة السوداء. في إحدى المداخلات، سأل روجان مازحًا بنبرة جادة: “إذًا لا تعتقد أن الفضائيين بنوا الأهرامات؟” – في إشارة إلى أشهر نظريات المؤامرة حول الحضارة المصرية. ابتسم حواس ابتسامة ساخرة وردّ: “وهل تعتقد أنت بذلك؟”. هنا تراجع روجان قليلًا قائلاً إنه لا يقصد فضائيين بالمعنى الحرفي، بل ربما حضارة بشرية متقدمة تقنيًّا (كـ“أطلانتس”) أعانت المصريين. لم يترك حواس الفكرة تمر من دون أن يبدي امتعاضه: كرر أن المصريين القدماء “كانوا عباقرة بما يكفي” وأن كل الآثار تدل على تطورهم التدريجي المحلي. وللمفارقة، اعترف روجان بأنه شخصيًّا لا يؤمن بأن “كائنات فضائية بنت الأهرامات” – لكنه أضاف ضاحكًا: “بل أظن أن أطلانتس فعلت”، ممّا حدا بحواس إلى هز رأسه استنكارًا. هذا الحوار الغريب بين فرضية أسطورية وآخر ما توصل إليه علم المصريات لخّص المشهد: عالم متخصص يجاهد لإقناع مضيفه بحقائق مثبتة، ومضيف يتعامل معها كوجهة نظر تقابلها وجهة نظر أخرى “مشروعة” حتى لو افتقرت الى الدليل.

جو روجان وسجلّه مع نظريات العلم الزائف

لم تأت شكوك جو روجان من فراغ؛ فالحلقة مع حواس كانت حلقة أخرى في سلسلة طويلة استضاف فيها روجان شخصيات تروج لأفكار علمية زائفة وغريبة. اشتهر برنامجه بفتح أبوابه لمن يشككون في التيار العلمي السائد، سواء في التاريخ أو الطب أو المناخ. وعلى مر السنين، تحول “تجربة جو روجان” إلى منبر يجتذب الملايين ممن يجدون متعة في سماع كل ما هو غير تقليدي – الأمر الذي أكسب روجان نقدًا لاذعًا من الأوساط العلمية الرصينة.

على سبيل المثال، في عام 2024 قدّم روجان واحدة من أكثر حلقاته إثارة للجدل باستضافته الممثل الهوليوودي تيرينس هوارد، المعروف ليس بإنجاز علمي بل بتبنيه أفكارًا فيزيائية رياضية عجيبة. خلال تلك الحلقة، أطلق هوارد العنان لسيل من الادعاءات الخيالية: زعم أنه استطاع “إعادة اختراع علم الفيزياء”، وأنه تمكن من تطوير نظرية تمكنه من “القضاء على الجاذبية”، بل وأن الرقم صفر ليس موجودًا في الطبيعة. وبينما راح هوارد “يفكك” أساسات الرياضيات كفيثاغورس وجدول الضرب، لم يقاطعه روجان لتصحيح معلوماته، بل ظهر عليه الانبهار والتشجيع. في أحد المقاطع، عرض هوارد مقطع فيديو يدّعي فيه إبطال جاذبية كوكب زحل عبر جهاز من ابتكاره، فعلق روجان قائلاً: “إن كنتَ محقًا، فكم من الأشخاص سيكونون مخطئين إذن؟“. جاء رد هوارد بثقة مطلقة: “الجميع مخطئون. الكون كلّه يؤيدني”. هذا الحوار المذهل – الذي أشارت مجلة “نيوزويك” إلى أن الكثير من وسائل الإعلام وصفته بأنه “الأكثر غرابة”) على البودكاست، سلط الضوء مجددًا على النقاشات الدائرة حول أسلوب روجان في استضافة شخصيات تطرح أفكارًا خارجة عن المألوف: فهو نادرًا ما يتحدى ضيوفه من مروجي العلوم الزائفة، بل يمنحهم مساحة رحبة لنشر أفكارهم، ما يضفي عليها في أعين جمهوره مسحة من الشرعية والمصداقية.

تكرر النهج نفسه في موضوع الحضارات القديمة ونظريات “التاريخ البديل”. أحد أشهر ضيوف روجان في هذا المجال هو الكاتب البريطاني*غراهام هانكوك، صاحب نظرية مفادها وجود حضارة بشرية متطورة تكنولوجيًا اندثرت خلال العصر الجليدي الأخير، وهي التي يعتقد أنها نقلت معرفتها لإنشاء حضارات لاحقة مثل المصرية القديمة.*يرى هانكوك أن علماء الآثار التقليديين يتجاهلون بشكل متعمد الأدلة على هذه الحضارة المفقودة أو حتى يعملون على قمع التفسيرات البديلة وإخفاء الأدلة. هذه المزاعم وجدت صدى لدى روجان، الذي استضاف هانكوك مرارًا، ووصفه البعض بأنه مروج لعلم الآثار الزائف الذي يقدمه هانكوك.*ويجذب بودكاست روجان جمهورًا يقدَّر بعشرات الملايين، ويزداد التفاعل مع الحلقات التي يظهر فيها هانكوك، حيث يعتبرها البعض ترفيهًا مثيرًا.

في المقابل، أثارت تلك الحلقات استنكارًا واسعًا في المجتمع العلمي.*فقد وصف*علماء آثار بارزون طرح هانكوك بأنه “علم آثار زائف” أو “علم زائف خطير” يشوه حقائق التاريخ وينسج سرديات مضللة تمزج العلم بالخيال.*وحذر أنثروبولوجيون من أن شعبية هذه الأفكار تساهم في تآكل الثقة في العلم وممارسات البحث المعمول بها، وتدعم التوجهات المناهضة للفكر والخبرة.*نتيجة لذلك، رأى بعض العلماء المتخصصين، مثل عالم الآثار الدكتور*فلينت ديبل، أنه من الضروري مواجهة هذه المعلومات المضللة مباشرة والوصول إلى جمهور روجان الواسع، بدلاً من الاقتصار على الحوار الأكاديمي الداخلي.*وشدد ديبل على أهمية “الذهاب إلى المساحة التي يستمع فيها الناس إليه [هانكوك] وعرض الأدلة الحقيقية وشرحها بوضوح وبطريقة جذابة” بهدف تحدي انتشار المعلومات الخاطئة.

أصبح جو روجان رمزًا لتقاطع الإعلام الجماهيري مع نزعات التشكيك في المؤسسة العلمية. فمن ناحية، يصعب إنكار ضخامة تأثيره: برنامجه هو الأكثر استماعًا على منصة سبوتيفاي حاليًّا، وقد دفعت له الشركة 100 مليون دولار ثمنًا لحصرية بثّه. تشير التقديرات إلى أن حلقاته تُحمَّل نحو 200 مليون مرة شهريًا – وهو رقم مذهل يعني أن آرائه (وأحيانًا معلوماته المغلوطة) تصل إلى جمهور يفوق ما تحققه مؤسسات إعلامية تقليدية.*

هذه المنصة الهائلة كانت وراء قلق جهات طبية وعلمية من تأثير روجان؛ ففي*مطلع 2022*وقّع أكثر من ألف عالم وطبيب رسالة مفتوحة تطالب سبوتيفاي بوضع سياسة لمكافحة المعلومات الخاطئة التي تُبث عبر برنامجه، ولا سيما تلك المتعلقة بجائحة كورونا واللقاحات. وبسبب موقفه المتساهل مع مروجي النظريات المفندة علميًّا، انسحب فنانون كبار مثل نيل يونغ وجودي ميتشل من منصة سبوتيفاي احتجاجًا. بكلمات أخرى، أصبح اسم جو روجان في نظر الكثيرين مرادفًا لازدهار “العلوم الزائفة” في الفضاء الإعلامي المعاصر – فهو يُقدّم للمستمعين مزيجًا من الترفيه والإثارة الفكرية التي تتحدى التيار العلمي، من دون تحمل عبء التحقق أو المسؤولية المهنية التي يلتزم بها الصحافيون والعلماء التقليديون.





زاهي حواس بين منهجية العلم وإغراء الاستعراض

على الجهة الأخرى من الطاولة، جلس زاهي حواس حاملًا إرثًا مختلفًا تمامًا ولكن لا يقل إثارة للجدل. فقد بنى حواس سمعته خلال عقود كواحد من أشهر الوجوه في علم المصريات عالميًا، جامعًا بين الخبرة الأكاديمية والكاريزما الإعلامية. كثيرًا ما يُشبَّه حواس بشخصية إنديانا جونز السينمائية – لا سيما مع اعتماره الدائم قبعة عريضة الحواف أثناء جولاته الميدانية – وقد ساعدته شخصيته الصاخبة على حصد شهرة عالمية غير مسبوقة لعالِم آثار. فعلى مدار العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم يكن يمر أسبوع من دون أن يظهر حواس في وسيلة إعلام دولية متحدثًا عن كشف أثري جديد في مصر، حتى أدرجته مجلة*تايم عام 2006*ضمن قائمتها لأكثر 100 شخصية نفوذًا في العالم. وأطلقت بعض الشركات خطًا لملابس السفاري يحمل اسمه*كعلامة تجارية*– في دلالة على تحويل صورته إلى سلعة ثقافية مرتبطة بأسرار الفراعنة. وخلال توليه مناصب رسمية (منها الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار ثم أول وزير للآثار في مصر)، أحكم حواس قبضته على إدارة كنوز مصر القديمة، جامعًا بين السلطة الإدارية والحضور الإعلامي.

لكن كان لتلك الشهرة الاستثنائية وجه آخر. إذ تراكمت داخل الأوساط الأثرية والأكاديمية، انتقادات عدة لأداء حواس العلمي والإداري على حد سواء. أحد الانتقادات الشائعة تمثّل في نزعة حواس إلى الاستئثار بالأضواء وطمس مساهمات الآخرين. اشتكى عدد من*علماء المصريات*من أنه “ينسب كل الاكتشافات الى نفسه” ولا يفسح مجالًا لبروز وجوه أخرى. والحقيقة أن حواس نفسه لم يُخفِ اقتناعه بأنه نجم المجال الأوحد؛ فقد نقل عنه*قوله*بصريح العبارة: “**** وهبني جاذبية خاصة لم يمنحها لغيري… ابتعدتُ عن الساحة لعامين، فأخبروني مَنْ النجم الآن؟”. وكان يرى – في تبرير منتقديه – أنه بصوته الجهوري وحضوره الكاريزمي جعل العالم كله يهتم بآثار مصر. هذه الثقة بالنفس التي تلامس الغرور عززت صورة حواس كبطل قومي في نظر البعض، لكنها أثارت حفيظة آخرين اعتبروا أسلوبه استعراضيًا يتجاوز حدود التواضع العلمي.

من زاوية البحث العلمي البحت، أُخذ على حواس ميله إلى طرح فرضيات غير مؤكدة بصيغة الحقائق القطعية قبل إخضاعها للنشر الأكاديمي المُحكّم.*على سبيل المثال، في عام 2007 تصدّر حواس عناوين الصحف بإعلانه “التعرف إيجابيًّا على مومياء الملكة حتشبسوت” من خلال مقارنة سنّ عثر عليه في صندوق أثري بفك إحدى المومياوات المجهولة. ورغم أن هذه الفرضية مثيرة للاهتمام، فإن كثرًا من المتخصصين تحفظوا على تبنيها كحقيقة نهائية – بخاصة أن المومياء المعنية عُثر عليها في قبر متواضع لا يليق بملكة عظيمة، فضلاً عن أن روايات التاريخ تشير إلى أن ابن حتشبسوت أخفى جثتها بعيدًا.*

مثل هذه الحالات دفعت بعض زملائه الى وصفه بأنه يخلط بين الإثارة الإعلامية والتحقيق العلمي الدقيق، وأن “زاهي لديه ميل لطرح نظريات على أنها حقائق” قبل توافر أدلة كافية. حتى الصحافة الغربية وجهت إليه سهام النقد بسخرية؛ فكاتب في*نيويورك تايمز*تهكم على حماسة حواس المفرطة قائلاً: “نأمل بأن يعثر الدكتور حواس على بعض ’حبوب الهدوء‘ المصرية القديمة ليبتلع منها ما يكفي“.

أما إداريًا، فقد عُرف عن حواس مركزيّته الشديدة في إدارة الآثار المصرية. خلال فترة رئاسته المجلس الأعلى للآثار، أصدر تعليمات صارمة بأن أي كشف أثري جديد لا يجوز الإعلان عنه إلا من خلاله شخصيًّا وبموافقته. كان يرى أن هذا التنظيم يضمن التحقق من صحة الاكتشافات وتقديمها بصورة لائقة للإعلام العالمي، بدل ترك الأمر لكل بعثة على هواها. وربما تكون نواياه علمية وإدارية سليمة، لكن الأسلوب أثار استياء البعض.*

ففي عام 2003، أعلنت عالمة المصريات البريطانية جوان فليتشر من جانب واحد عبر قناة تلفزيونية، أنها اكتشفت مومياء نفرتيتي (زوجة إخناتون)، معتبرة ذلك كشف القرن. رد فعل حواس جاء حادًا وحاسمًا، إذ نفى صحة الاكتشاف واعتبره “محض خيال”، واتخذ خطوة غير مسبوقة بمنع فليتشر من العمل في المواقع المصرية لاحقًا عقابًا لها. ولم يتردد في الفخر بهذا القرار قائلًا: “جعلتُ حياتها جحيمًا… كنت صارمًا للغاية، فلا رحمة عندي في العلم“. موقف حواس هذا قسم الآثاريين بين مؤيد ومعارض؛ فبعضهم رأى فيه حفاظًا ضروريًا على “قواعد المنهج العلمي” ومنعًا لنشر ادعاءات غير مؤكدة، بينما اعتبره آخرون تعسفًا واستبدادًا يهدف إلى إبقاء هالة الإنجازات محصورة حول شخصه. ويعلق عالم المصريات بيتر لاكوفارا – وهو صديق لحواس – مدافعًا، بأن “المنتقدين قالوا إنه ينسب كل شيء الى نفسه، لكنه في الواقع كان يقوم بالدعاية للاكتشافات وضمان مرور المعلومات بالقنوات السليمة” قبل إعلانها. ومع ذلك لا ينكر لاكوفارا وغيره أن زملاء كثيرين “تذمروا من أنه خطف الأضواء”.

بلغ التوتر بين حواس ومجتمع الأثريين ذروته مع تغير المناخ السياسي في مصر عام 2011. فخلال ثورة يناير التي أطاحت الرئيس الأسبق حسني مبارك، وُضع حواس – بوصفه كان وزيرًا في حكومة مبارك الأخيرة – تحت مجهر النقد الشعبي. اعتبره الأثريون الشباب جزءًا من حرس قديم احتكر المناصب والفرص، فوقعت احتجاجات ضده وضد استمراره في منصبه. ويروي مدوّن مصري كيف انتهى الأمر بإخراج حواس من مكتبه في وزارة الآثار من الباب الخلفي تحت وابل من الهتافات الغاضبة من طلاب وعمال آثار شباب، في مشهد وثّقته كاميرات الفيديو آنذاك وشاهده الآلاف.

أصيب حواس بصدمة من ذلك الانقلاب في المعاملة. وفي لقاء لاحق، برر ما حدث بأن هناك كثيرين من “أعداء النجاح” الذين يغارون مما حققه، وشبّه خصومه بأتباع الإله ست (إله الشر في مصر القديمة) الذين حاربوا أوزيريس. لا شك في أن حواس صنع له أعداء خلال صعوده الصاروخي، لكن منتقديه لم يكونوا قلة. فإلى جانب الشباب الغاضب من احتكاره الفرص، كانت هناك اتهامات فساد إداري ومالي تلوح في الأفق – لم تُثبت قضائيًا أبداً لكنها تركت سحابة شك فوق رأسه.

“أسطورة زاهي” كما يسميها البعض، تعرضت لشروخ بعد الثورة: منع من السفر فترة وجيزة، وخضع لتحقيقات حول اختفاء قطع أثرية (كقضية*سرقة خرطوشة*من حجر في الهرم الأكبر، اتُّهم بإعطاء إذن فيها لمغامرين أجانب)، وإن كان نفى بشدة أي تورط وأفلت من الإدانات القضائية.

على الرغم من ذلك كله، لم يتوقف حواس عن ممارسة شغفه الآثاري بعد تركه المنصب الرسمي.

*لكنه فعل ذلك بطريقته المعتادة المثيرة للجدل. في عام 2024، تقدمت د.*مونيكا حنّا*– وهي عالمة آثار وأستاذة مصرية معروفة بنشاطها في مكافحة سرقة الآثار – ببلاغ للنائب العام تتهم فيه زاهي حواس بارتكاب مخالفات قانونية في أعمال الحفر التي يجريها. خلاصة الادعاء أن حواس استغل مركزًا بحثيًا يحمل اسمه في مكتبة الإسكندرية لتلقي أموال ومنح أجنبية لتمويل حفائر أثرية في مواقع مثل سقارة والأقصر، وهو ما يخالف قانون الآثار المصري الذي يحصر حق التنقيب في الجهات الحكومية والبعثات العلمية المعترف بها.*

زعمت حنّا أن “مركز زاهي حواس” يعمل كواجهة تتيح لحواس تمويل بعثاته الخاصة خارج إطار الرقابة المالية للدولة، ومن دون الإفصاح عن مصادر التمويل. سارع حواس إلى نفي هذه الاتهامات جملةً وتفصيلًا، موضحًا أن المركز أنشئ بمبادرة من د. مصطفى الفقي (مدير المكتبة آنذاك) لدعم الأبحاث الأثرية، وأن تلقي الأموال عبر المؤسسة أمر قانوني دولي. وأكد أنه ينجز الحفائر بإشراف المسؤولين الحكوميين المعنيين في المواقع، وبأن المصروفات كافة موثقة بإيصالات. وشدد حواس على أنه – خلافًا للمتعارف عليه – لم يتقاضَ أي أجر لنفسه كمدير للبعثات، وبالتالي فلا شبهة مصلحة شخصية. ورغم تأكيده تقديم المستندات التي تدحض هذه الادعاءات، فإن مجرد حصول هذا الاشتباك القانوني العلني عكس حجم الانقسام في النظرة إلى حواس داخل مصر: فريق من الباحثين الشباب يرى أنه آن الأوان لأفول نجمه وهيمنة فرده، وفريق آخر ما زال يعتبره رمزًا وطنيًّا قدّم الكثير ولا غنى عن خبرته.

في الواقع، لا يزال زاهي حواس يحظى باحترام وإعجاب قطاع واسع من المتخصصين والجمهور محليًا ودوليًا. فبعد استبعاده من المشهد الرسمي لبضع سنوات، استعين به كمستشار في مشروعات أثرية، وعاد لتقديم المحاضرات والجولات السياحية. هناك من زملائه من يقرّ بأن وجوده كانت له جوانب إيجابية؛ إذ يُنسب إليه تنشيط العمل الأثري في مصر أوائل الألفية وجذب تمويلات ودعم لمشاريع التنقيب والترميم. ويشير بعضهم إلى أنه “قطع أوصال البيروقراطية” التي كانت تعيق البحوث، وبثّ الحماسة في نفوس العاملين لحماية الآثار. وعندما غادر منصبه، سادت فترة من الاضطراب توقفت فيها أعمال كثيرة، فقال مسؤول آثار مصري حينها بحسرة: “الآثار تنهار أمام عينيّ”، معربًا عن افتقاده حماسة حواس في الإدارة.*

كما أن انهيار السياحة بعد 2011 دفع آخرين الى المطالبة بعودة حواس لدوره القيادي باعتباره “الوجه القادر على إعادة مصر إلى قلوب الناس” وجذب الاهتمام العالمي كما كان.*

في*منتصف 2025*بدأ حواس جولة محاضرات كبرى في الولايات المتحدة وكندا بعنوان “اكشف أعظم أسرار أرض الفراعنة”، يعد فيها الجمهور الغربي بـ“اكتشافات لم يسمع بها أحد من قبل”، وبأن الوقت حان لكشف “أعمق الأسرار” المدفونة. تشمل الجولة 33 مدينة وتتضمن عناوين محاضرات مثيرة كـ “اكتشاف هرم جديد” و “لغز الملكة المجهولة” و “آخر أسرار توت عنخ آمون” وغيرها – وهو أسلوب دعائي ، طالما برع فيه حواس. صحيحٌ أن بعض هذه الوعود قد لا يتحقق قريبًا (فمثلًا اعترف حواس في*2024*بأن البحث الطويل عن مقبرة كليوباترا لم يثمر أي دليل وأن البعثة أوقفت عملياتها بعد 11 عامًا من المحاولة)، لكن الحماسة بحد ذاته جزء من تجربة التعلم لدى الجمهور المحب للتاريخ. وزاهي حواس يفهم ذلك جيدًا: فهو يوازن باستمرار بين لغة العالم الباحث ولغة الحكواتي الشعبي، ويعلم أن الجمهور العالمي اليوم – في زمن نتفليكس ويوتيوب – ينجذب بقدر ما يرى العلم قصة مشوقة مليئة بالألغاز بقدر ما هو منهج صلب من الحقائق.

الترفيه أم المعرفة؟… صراع أوسع على شاشة البودكاست

عند تأمل حلقة جو روجان مع زاهي حواس، يتضح أن المواجهة لم تكن مجرد سجال شخصي بين رجلين، بل رمزًا لصدام ثقافي أوسع حول كيفية تقديم المعرفة العلمية للجمهور، ومتى تتحول إلى مجرد استعراض ترفيهي. فمن جهة يقف بودكاست «جو روجان» كمكبر صوت ضخم يُسوِّق الخرافة في ثوب «حوار حرّ»؛ برنامجٌ يجني ملايين الدولارات من إذابة الحدود بين المعلومة المتحقَّقة والادّعاء الزائف. يتغذى نموذج روجان على اقتصاد الانتباه في العصر الرقمي؛ ففي هذا الاقتصاد الجديد، ما يجذب النقرات والاستماع ليس دقة المحتوى ورصانته، بل مدى إثارته الدهشة والجدل. هكذا أصبح “كل شيء واردًا” في حوارات روجان: من نظريات الأرض المسطحة، إلى إنكار التغير المناخي، إلى حضارات أطلانتس ودوائر الفضائيين – وكلها تُطرح جنبًا إلى جنب مع مواضيع رصينة أحيانًا، ما يخلق مزيجًا مربكًا للمشاهد غير المتخصص. النتيجة: تضاؤل الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال العلمي في وعي الجمهور العام. وكما نبّه باحثون في*معهد بروكنجز، فإن الوسائط الصوتية كالبودكاست تمتلك قدرة خاصة على “نقل معلومات خاطئة بشكل مؤثر نظرًا الى جاذبية الأسلوب القصصي للمستمعين”؛ فالمعلومات التي تُسرد بصوت واثق وحوار مشوق قد يتلقاها الناس كحقائق لمجرد أنها ممتعة ومقنعة على المستوى القصصي.

في المقابل، لدينا شخصية مثل زاهي حواس تمثّل المدرسة الكلاسيكية في التواصل العلمي، لكنها وظّفت أيضًا عناصر الاستعراض. حواس هو العالم صاحب الشهادات والألقاب الرسمية الذي يصر على أن له وحده حق الكلام الفصل في شؤون تاريخ مصر القديمة، وهو يراهن في ذلك على رمزيته وسلطته التي بناها عبر عقود. لكنه أيضًا – وعلى نحو لا يمكن إنكاره – يعرف قيمة الدراما في جذب الاهتمام الى الآثار. لقد رأيناه يجيد إخراج لحظات الكشف الأثري أمام الكاميرات: يرتدي خوذته في وادي الملوك ويقف أمام تابوت فرعوني يفتحه للمرة الأولى منذ آلاف السنين في بث مباشر، أو يطلق تصريحات مثل “قرب العثور على مقبرة أنطوني وكليوباترا” لإثارة عناوين الصحف العالمية. قد ينتقد البعض هذه “التسليعية” للعلم، لكن حواس يرد بأن الاهتمام الشعبي ضروري لحماية التراث وتأمين موارده – وهو في ذلك يمتلك حجة، فكم من مشروع أثري موّلته الحكومة أو شركات راعية فقط بفضل الضجة الإعلامية التي أحاطت به. إنه توازن دقيق بين اقتصاد المعرفة واقتصاد الرموز: حيث تتحول المعلومة إلى رمز ثقافي يجذب السياحة والاستثمار الوطني، ويصبح العالِم ذاته مَعلمًا رمزيًّا* يضيف وزنًا وقيمة رمزية لبلده. وقد قالها حواس بصراحته المعتادة في مقابلة مع الغارديان: “عندما أتحدث أنا يستمع الناس، وعندما يتحدث غيري يغفون… لقد جعلتُ اسم مصر في قلب كل إنسان في العالم”.

يظهر أن كلًّا من روجان وحواس – رغم اختلاف مشربهما – يمثّلان صورتين لعلاقة المعرفة بالسلطة في عصرنا. روجان يجسّد سلطة الإعلام الجديد التي تُخضع الخبراء للمساءلة الشعبية وتجعل المعلومة الديمقراطية (أي متاحة لكل من يملك منصة وصوتًا جذابًا)، فيما يجسّد حواس سلطة الخبير التقليدي الذي يستمد صدقيته من مؤهلاته ومن احتكاره مصادر المعلومات الأولية. أوجه الشبه بينهما تكمن في العرض والأسلوب أكثر من المحتوى: فكلاهما يوظف شخصيته وكاريزماه الخاصة للتأثير. الأول يُبسط المعرفة (وأحيانًا يبتذلها) لتصل إلى شباب يجوبون يوتيوب بحثًا عن الإثارة الفكرية، والثاني يبهر الجمهور بقصص الفرعونيات والكنوز لإبقاء الحضارة القديمة نابضة في الأذهان. كلاهما أيضًا يؤمن – عن وعي أو بدون وعي – بقوة الحكاية في الإقناع: جو روجان يترك لضيفه أن ينسج حكاية بديلة عن التاريخ أو العلم لأن الحكاية الممتعة قد تنتصر على الحقيقة إن كانت الحقيقة مملة. وزاهي حواس يعرف أن “قصة توت عنخ آمون” بأساطيرها ولعناتها أشد
وقعًا في النفوس من تقرير أثري جاف، فيحكي الأولى ليحصل على انتباه الجمهور ثم يتسلل بالحقائق خلال ذلك الانتباه.

لكن لقاء الرجلين أظهر أيضًا مخاطر هذا النهج عندما تصل الأمور إلى نواة الحقيقة العلمية. فبرغم كل شيء، الحقيقة ليست وجهة نظر تتغير بالإقناع الخطابي. وفي نهاية المطاف، لم ينجح أي منهما في تغيير قناعة الآخر قيد أنملة خلال الحوار المحتدم. حواس غادر الحلقة وهو لا يزال يرى في روجان مثالاً للإعلامي غير المطلع الذي ينشر “خرافات ضرّة” بالوعي التاريخي. وروجان أنهى الحوار – بابتسامة دبلوماسية وكلمات مجاملة – لكنه أوحى إلى جمهوره بأنه “لم يقتنع تمامًا” وأن الموضوع ربما “يحتاج الى مزيد من البحث”.

وهكذا وجد كل طرف مبررًا لمواصلة ما كان عليه: حواس سيستمر في حملته ضد “شعوذات” المؤرخين المزيفين، وروجان سيواصل استضافة هؤلاء المؤرخين ذاتهم وربما إفساح المجال لهم للرد والتشكيك في ما قاله حواس. في غضون ساعات من بث الحلقة، اشتعلت منصات الإنترنت بنقاشات حادة: أنصار هانكوك والبدائل التاريخية سخروا من حواس ونعته بعضهم بألقاب قاسية، بالمقابل دافع آخرون عنه ورأوا في موقفه انتصارًا للعقلانية ضد “تهويمات العصر الجديد”. فالحوار أُجري بشروط روجان الإخراجية ولم يسمح لحواس باستطراداته المعتادة.

خلف هذا كله يكمن سؤال جوهري يتجاوز شخصَي روجان وحواس: كيف نوازن بين جاذبية الترفيه وواجب التثقيف في عصر المعلومات المفتوحة؟ وهل أصبح على المعرفة الجادة أن ترتدي ثوب الاستعراض حتى تحظى بالانتباه؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فأي ثمن سندفعه حينها في دقة المعلومة وعمق الفهم؟ لقد أظهرت حلقة روجان/حواس جوانب من هذا الصراع. كانت هناك حقيقة علمية يمثلها حواس، ومزاعم شبه خيالية يتبناها جانب من جمهور روجان، وبينهما إعلامي يحاول التوفيق بين الإثنين باسم حرية الحوار. لكن حرية الحوار تلك تصطدم بحدود الواقع العلمي: ففي العلم لسنا إزاء آراء متساوية القوة – بعضها مدعوم بآلاف الساعات من البحث والتنقيب والأدلة المادية، وبعضها الآخر مبني على تأويلات شخصية ورغبات في التصديق. الجمع بينهما على طاولة واحدة قد يخلق مشهدًا مثيرًا ولا شك، لكنه قد يوقع المشاهد غير الناقد في فخ المساواة الزائفة بين الحقائق والادعاءات. وهنا مكمن الخطر الذي يجعل كثرًا من العلماء يشعرون بالحرج من خوض نقاشات على منصات كبرنامج روجان؛ فهم يدركون أن ظهورهم ذاته قد يُستخدم لإسباغ شرعية على الطرف الآخر في أعين الجمهور، مهما قدموا من تفنيدات.

في خاتمة المطاف، غادر المستمعون الحلقة بانطباعات شتى. البعض رأى حواس متعجرفًا ومتصلبًا، والبعض الآخر اعتبر روجان غير منصف ومستفزًا. لكن ما لا يمكن إنكاره أن الحلقة نجحت في جذب الانتباه الكافي لإعادة تسليط الضوء على قضايا معرفية مهمة: مثل الفرق بين منهجية العلم وأساليب الدجل المقنّع بالعلم، ومثل دور الإعلام في تشكيل التصورات العامة عن التاريخ. إنها معركة بين الترفيه والمعرفة تدور رحاها يوميًا في فضائنا الثقافي؛ معركة قد لا يكون فيها منتصر واضح، لكنها تحدد تدريجيًا ملامح المستقبل. فإما أن ننجرف أكثر نحو عالم تصبح فيه الحقيقة مجرد رأي آخر يتنافس في سوق الآراء، وإما أن نبتكر طرقًا أكثر جاذبية – من دون التضحية بالدقة – لجعل الحقائق العلمية نفسها مشوقة للجمهور. حلقة روجان مع حواس كانت مشهدًا صغيرًا من هذا الصراع الكبير: مشهد تختلط فيه الضحكات بالاستفزازات، والسجائر المشتعلة بالبرديات القديمة، والحقيقة بالخيال، تحت أضواء المسرح الإعلامي.

وبينما أسدل الستار الصوتي على تلك الأمسية المشهودة بعبارة روجان الختامية: “كان ذلك ممتعًا حقًا، شكرًا لحضورك دكتور حواس”، بقي السؤال يتردد في الأذهان: أي الطريقين سنسلك في قادم الأيام – طريق المعرفة القائمة على الدليل؟ أم طريق “المعرفة” القائمة على من يروي القصة الأكثر تشويقًا؟
 


أكتب ردك...
أعلى أسفل