الجزء الاول
آدم شاب في الخامسة والعشرين من عمره، هادئ ومتواضع، يعمل في مجال البرمجة. بدا للآخرين عاديًا جدًا، لكن داخله كان يخفي حياة كاملة من المشاعر، حياة يختزن فيها حبًا صامتًا لفتاةٍ لم تدرك يومًا مكانتها في قلبه.
ليلى، في الثالثة والعشرين، فتاة نشيطة مليئة بالحيوية، تخرجت حديثًا من الجامعة وبدأت رحلتها العملية في شركة استشارات. كانت من النوع الذي يملأ الأمكنة ضحكًا وحديثًا مع صديقاتها، لا تفارق ابتسامتها شفتيها، ولا ينطفئ بريق الأمل من عينيها.
كان آدم يسبقها في الدراسة بسنتين، وكان يراها كثيرًا في ساحات الجامعة حين كانت تجلس مع زميلاتها، أو تتحدث بحماسٍ عن مشاريعها.
كانت تلمحه أحيانًا، نظرات عابرة، مجرد وجه عابر في زحام الطلاب.
لكنها لم تكن توليه اهتمامًا، منشغلة بدراستها وأحلامها، وكأن وجوده لم يكن أكثر من ظل عابر في رصيف الجامعة.
أما بالنسبة لآدم، فكان حضورها يملأ روحه بأحاسيس يصعب وصفها.
كان يلتقط ضحكتها، حركاتها، وحتى تلك اللحظة الصغيرة حين تسرح بأفكارها، فيحاول أن يقرأ ما يدور في بالها.
لم يجرؤ يومًا على الاقتراب، اكتفى بالصمت، يراقبها من بعيد، يحرس حبًا لا صوت له.
مرت الأيام، وتخرجت ليلى، وبدأت حياتها المهنية.
لم يكن آدم قد نسيها، فحتى بعد مغادرتها الجامعة، كان يراها أحيانًا تمر بالقرب من المقهى الذي اعتاد الجلوس فيه، تضحك مع صديقة، أو تراجع أوراقها في يدها، ترحل في أفكارها.
كان يراها تمضي، فلا يملك سوى أن يراقبها كعادته، من خلف الزجاج.
ذات ليلة ممطرة، جلس آدم في زاويته المعتادة، يقلب صفحات دفتره الصغير.
كتب فيه كلمات لم يجرؤ على البوح بها:
"ليلى، كنتِ دومًا قريبة جدًا… وبعيدة جدًا."
وفجأة، دخلت ليلى المقهى، هاربة من المطر.
شعرها مبلل قليلًا، نظراتها تحمل توترًا خفيفًا.
توقفت لبرهة بجانب الطاولة التي يجلس عندها، تبادل معها نظرة عابرة، لكنها سرعان ما حولت بصرها، وكأنها تتجنب لقاء عينيه.
"هل لاحظتني حقًا، أم كنت مجرد عابر سبيل؟"
تساءل في نفسه وهو يراقب خطواتها.
خرجت بسرعة بعد أن حيّت صديقتها عند الباب.
ونهض آدم مترددًا، لحقها بعينيه وهو يردد:
"كم تمنيت لو توقف الزمن هنا، فقط لأخبرك بكل شيء."
وفجأة، جلس أمامه رجل غامض، وضع حقيبة صغيرة على الطاولة وقال بنبرة منخفضة:
"آدم، اللعبة بدأت. عليك أن تختار الآن قبل أن يُغلق كل شيء."
تجمدت نظرات آدم، شعر بالخوف والدهشة.
ماذا تعني هذه الحقيبة؟
وهل حان الوقت ليكسر حاجز صمته، ويبوح بقلبه المخبأ؟
أم أن هناك سرًا أكبر يترصده في الخفاء؟
وترددت في ذهنه كلمات جدته:
"الحب، يا بني، ليس فقط أن تحب، بل أن تواجه خوفك، وتخوض المغامرة، ولو خُضت الطريق وحدك."
ترى، هل يمتلك آدم الشجاعة ليخرج من صمته؟
وهل ستكتشف ليلى يومًا أن قلبًا كان يحرسها بصمت منذ البداية؟
بينما كان المطر يتساقط خارج المقهى، بدا كل شيء في قلب آدم وكأنه يغرق في دوامة من المشاعر.
جلس أمامه الرجل الغامض، عيونه الداكنة تتأمل حقيبته الصغيرة، وكأنها تحمل سرًا أكبر من مجرد لقاء عابر.
اقترب الرجل من آدم وقال بصوت منخفض:
"آدم، هذه فرصتك. أحيانًا تُختبر قلوبنا في لحظة، إما أن تختار وإما أن تُضيّع كل شيء."
شعر آدم بأن قلبه يخفق بقوة، ارتبك، تردّد.
"ماذا تقصد؟" سأل وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه.
أجابه الرجل الغامض بابتسامة خفيفة:
"القصة بدأت منذ زمن، لكن النهاية تُكتب الآن. بينك وبينها طريق طويل، مفترق طرق، واختيار صعب.
قد لا تدرك هي أنك كنت هناك دومًا، تراقبها، تخشى أن تقترب، لكن كل شيء سيتغيّر قريبًا."
رمق آدم الحقيبة بقلق، ثم رفع نظره، لكنه وجد المقعد أمامه خاليًا.
اختفى الرجل كأنه شبح، وبقي آدم وحيدًا مع قلبه المثقل بالأسئلة.
التقط الحقيبة بيدين مرتجفتين، شعر بثقل غامض يسكنها، وكأنها تحتوي على مستقبله بالكامل.
وفجأة شعر بداخلها بخارطتين؛ واحدة تؤدي إلى طريق مجهول، والأخرى تحمل مفترقًا قد يوصله إلى ليلى.
"يا إلهي، هل حان الوقت لأختار مصيري؟"
سأل نفسه بصمت.
وفي عينيه لمعان خوف وأمل.
الجزء الثاني
بين الخوف والرجاء
مرت أيام لم يرَ فيها ليلى، وكأن الرياح حملتها بعيدًا.
لكنه كان يشعر بها في كل نسمة هواء تمر من حوله، في صوت ضحكة عابرة، في ظل شجرة كانا يجلسان قربها في الحرم الجامعي ذات يوم.
لم يكن يعلم إن كان حبّه مجرّد حلم عابر، أم قدَرًا يلاحقه كظلّه.
ظل يحمل الحقيبة معه كل يوم، وكأنها أصبحت جزءًا من كيانه.
كان يعلم أن قرارًا ما ينتظره، قرارًا قد يغير كل شيء.
في تلك الليلة، خرج آدم من المقهى، سار تحت المطر، كل خطوة كانت تطرق قلبه مثل خيوط مطرٍ لا ترحم.
فجأة، لمح ليلى على الرصيف المقابل، تضحك مع صديقة، كأن شيئًا لم يكن، بريئة، لا تدري أن أحدهم يحمل قلبه كأمانة لها.
توقف الزمن للحظة، نظر إليها طويلاً، شعر بأن قلبه يناديها، لكن صوته خافت لا يُسمع.
أخرج من حقيبته تلك الورقة التي تحمل مفترق الطرق.
كان يعرف أن عليه الاختيار.
"هل أخبرها؟
أم أبقى خلف الزجاج، أراقب من بعيد، وأحمل حبّي معي كسرّ لا يموت؟"
في تلك اللحظة، سمع صوت جدته يتردّد في ذهنه:
"الحب يا بني، امتحان من نوع آخر، إما أن تنجح فيه أو أن تخسره للأبد."
أخذ نفسًا عميقًا، وحدّق في الحقيبة، ثم أغلق عينيه.
"يا ليلى… هل تسمعينني الآن؟"
لكن حين فتح عينيه، وجدها قد اختفت وسط الزحام، تاركةً قلبه وحيدًا في مفترق الطرق.
ليالٍ مرت منذ تلك الليلة الممطرة، وآدم ما زال يتردد في فتح تلك الحقيبة الغامضة.
كلما همّ بفعل ذلك، ترددت في ذهنه صورة ليلى: وجهها المشرق، ضحكتها العذبة، عيناها البريئتان اللتان كانت تمرّ بهما عليه مرور الكرام، وكأن قلبه ليس سوى عابر طريق.
جلس في غرفته تلك الليلة، أمسك الحقيبة بيد مرتجفة، فتحها أخيرًا.
وجد بداخلها رسالة مكتوبة بخطٍ جميل:
"يا آدم، الحبّ رحلة، لكنك لا تستطيع أن تبقى راكبًا في المقعد الخلفي طوال الوقت. عليك أن تمسك المقود، أن تختار، أن تخطو. وإلا ستفقدها إلى الأبد."
ارتجف قلبه، شعر كأن الكلمات سُكبت في عروقه نارًا.
"هل حان الوقت؟"
سأل نفسه.
في صباح اليوم التالي، خرج مبكرًا، مرّ بالقرب من الجامعة القديمة حيث كان يراها دائمًا.
وقف عند ذات الزاوية التي كان يراقبها منها.
رأى ليلى مع صديقتها، تضحك، تلوّح بيدها، كعادتها، وكأن شيئًا لم يتغير.
لكنه شعر هذه المرة بأن قلبه لم يعد يحتمل الصمت.
اقترب ببطء، يده تكاد ترتعش، حاول أن يلتقط أنفاسه.
حين اقترب أكثر، شعرت ليلى بوجوده، التفتت نحوه، وارتسمت على وجهها نظرة دهشة.
كانت تلك اللحظة كأنها حُبست في قارورة زمنية، لا صوت إلا نبضات قلبه.
ابتسم لها، وتلعثم قليلًا قبل أن يقول:
"مرحبا ليلى…"
نظرت إليه، ارتبكت قليلًا، ثم ابتسمت بأدب:
"آدم… أليس كذلك؟ أظنني رأيتك من قبل في الجامعة."
شعر كأن قلبه كاد يقفز من صدره.
"نعم… كنت أراك كثيرًا… كنتِ دائمًا… مشرقة."
ضحكت ضحكة خفيفة، بدت مرتبكة، ثم قالت:
"هذا لطف منك… شكرًا."
تردّد، شعر أن الكلمات تخونه، لكنه تذكّر الرسالة في الحقيبة.
تنهد وقال:
"أعرف أن هذا قد يبدو غريبًا… لكنني كنت أراقبك منذ سنوات، أحببت ضحكتك، طريقتك، كل شيء فيك… لكنني لم أجرؤ على الاقتراب.
والآن… لا أريد أن أضيع الفرصة."
صمتت ليلى، بدت متفاجئة، نظرت نحوه طويلاً، وكأنها تقرأ قصته بين السطور.
ثم قالت بهدوء:
"آدم… أنت شخص طيب.
لكن… لم أفكر بك يومًا بهذه الطريقة.
كنتُ مشغولة بدراستي، وحياتي، وأحلامي.
أنا آسفة… لكنني لا أستطيع أن أبادلك نفس الشعور."
كادت دمعة أن تنزل من عينيه، لكنه تمالك نفسه.
ابتسم وقال:
"لا عليك…
كنت فقط بحاجة لأن تعرفي الحقيقة… لكي أستطيع المضي قدمًا."
شكرته بلطف، وربتت على كتفه بخفة، ثم ابتعدت مع صديقتها.
وقف آدم هناك، يشعر وكأن جبلًا انزاح عن صدره.
كانت تلك الكلمات الجريئة قد حررته أخيرًا.
رفع رأسه نحو السماء الملبدة بالغيوم، شعر ببعض الدفء في صدره.
"ربما هي البداية… بداية شجاعة جديدة."
في تلك اللحظة، دق هاتفه برسالة جديدة:
"آدم، اللعبة لم تنتهِ بعد.
انتظر مني اتصالًا، فأنت على وشك الدخول في فصل جديد."
قرأ الرسالة، شعر بقشعريرة في ظهره.
"من هذا الشخص؟
ولماذا أشعر أن قلبي على موعد مع رحلة أكبر مما توقعت؟"
وهكذا، انتهى ذلك النهار بمفترق طرق جديد،
حيث الحب، والغموض، والشجاعة…
يتقاطعون في قلبٍ واحد.
الجزء الثالث
بوابة الغموض
5كانت الشمس قد بدأت تودّع السماء، تاركةً خيوطًا حمراء كالدم في الأفق.
جلس آدم في مقهى هادئ بعيدًا عن الجامعة، يرتشف قهوته السوداء ببطء، كأنها تعينه على استعادة شجاعته التي فقدها حين وقفت ليلى أمامه، وقالت كلماتها التي كسرت قلبه.
ظلّ يفكر في كل شيء:
هل أخطأ حين صارحها فجأة؟
هل كان يجب أن يبقى في الظل أكثر؟
لكنه في النهاية شعر بأن تلك المواجهة كانت ضرورية، كأنها حررته من قيدٍ كان يلفّه لسنوات.
تذكر الرسالة الغامضة:
"آدم، اللعبة لم تنتهِ بعد.
انتظر مني اتصالًا، فأنت على وشك الدخول في فصل جديد."
تساءل:
من هذا الشخص؟
هل يعبث به أحدهم؟
أم أن هناك سرًا أكبر لم يكتشفه بعد؟
رنّ هاتفه فجأة، فانتفض من مكانه.
رقم غريب، لم يكن مسجلًا في ذاكرته.
تردّد قليلًا قبل أن يردّ، ثم رفع الهاتف إلى أذنه:
"مرحبًا؟"
جاءه صوت رجولي هادئ، بنبرة غامضة:
"آدم… أعرف ما حدث بينك وبين ليلى.
أعرف كل شيء."
اتسعت عينا آدم، تملّكه الرعب:
"من أنت؟ وكيف عرفت؟"
ضحك الرجل بهدوء، ثم قال:
"لا تهتمّ الآن بهويتي.
المهم أن تعرف أن القصة لم تنتهِ بعد.
أنت الآن أمام مفترق طرق آخر:
إما أن تغلق الباب الذي فتحته، وتنسى ليلى إلى الأبد…
أو أن تكتشف ما وراء قلبها، ما لم تُظهره لك يومًا."
أحسّ آدم كأن قلبه توقف.
"هل تمزح؟ لقد قالتها صريحة، إنها لا تشعر بي، فما الذي يمكن أن يتغير؟"
ردّ الرجل:
"أحيانًا، يا آدم، يكون ما نظنه نهائيًا مجرّد بداية.
هل تعلم أن ليلى تحمل سرًا لم تكتشفه بعد؟
هل تعلم أن قلبها لم يكن يومًا خاليًا… لكنك كنت تقف في المكان الخطأ والوقت الخطأ؟"
تجمدت يده على الطاولة.
"سر؟ أي سر؟"
الجزء الرابع
توقفنا في الجزء السابق لما الرجل الغامض قال لادم ان ليلى تحمل سر لم يكتشفه ادم ، ونظر اليه ادم مندهشا ويدية متجمدة على الطاولة وقال : سر ؟ أي سر تحمله ليلى ؟؟
أجاب الرجل:
"لا أستطيع أن أخبرك الآن، لكن عليك أن تأتي غدًا في الساعة التاسعة مساءً إلى العنوان الذي سأرسله لك.
إن كنت حقًا تريد أن تعرف من هي ليلى… ومن أنت في حياتها…
عليك أن تأتي."
ثم أُغلق الخط.
جلس آدم في مكانه، يشعر كأن الأرض تدور من تحته.
كانت يداه ترتعشان.
أمسك هاتفه مجددًا، فوجد رسالة جديدة:
"العنوان: شارع الأندلس، البناية رقم 17، الطابق الثالث.
غدًا – 9:00 مساءً."
أعاد قراءة الرسالة مرارًا.
هل هي خدعة؟
هل يجرّونه إلى فخٍّ ما؟
لكن الفضول انتصر عليه، ومعه قلبه الذي ما زال ينبض باسم ليلى.
"لا بد أن أعرف، حتى لو كانت النهاية صادمة."
في تلك الليلة، لم يغمض له جفن.
تقلّب في فراشه، تذكّر لحظة وقوف ليلى أمامه، صوتها الهادئ وهي تقول:
"آدم… أنت شخص طيب… لكنني لا أستطيع أن أبادلك نفس الشعور."
هل كانت تقول الحقيقة؟
أم أنها كانت تخفي شيئًا في قلبها؟
مع بزوغ الفجر، شعر بقرارٍ يختلج في صدره:
سيذهب إلى ذلك العنوان، سيكتشف الحقيقة كاملة.
مهما كان الثمن.
---
عندما حلّ الليل، ارتدى آدم ملابسه بعناية.
توجّه إلى العنوان المحدد، وكل خطوة كان قلبه يدقّ بقوة أشد.
وصل إلى البناية، صعد الدرج ببطء.
عند الطابق الثالث، وقف أمام باب خشبي قديم، طُرِقَ عليه الرقم 17 بلون باهت.
تردّد قبل أن يطرق الباب.
دقات قلبه كانت أعلى من صوت المطر الذي بدأ يهطل في الخارج.
فتح الباب رجل مسنّ، يرتدي نظارات سميكة، بدت على وجهه علامات الحكمة والغموض.
"آدم، تفضّل بالدخول."
دخل بخطوات حذرة.
كانت الغرفة مليئة بالكتب القديمة والخرائط المبعثرة، كأنها غرفة أسرار.
جلس الرجل أمامه، وبدأ الحديث:
"آدم، كنت تراقب ليلى طويلًا، صحيح؟"
هزّ رأسه بصمت.
"لكن هل سألت نفسك يومًا: لماذا لم تلتفت إليك؟
هل كان قلبها حقًا خاليًا من كل شيء… أم أن في قلبها حُبًا آخر لم تُفصِح عنه؟"
تسارعت أنفاس آدم.
"أخبرني… هل أحبّت شخصًا آخر؟"
أجاب الرجل العجوز، وقد بدت عيناه تلمعان تحت ضوء المصباح:
"هي لم تحب أحدًا… لكنها كانت تخاف أن تُجرح.
قلبها مليء بالخوف والذكريات القديمة، وأنت كنت دائمًا بعيدًا جدًا وقريبًا جدًا في آنٍ واحد.
لكن الغريب أن قلبك أنت أيضًا مليء بالأسئلة.
وها أنت الآن هنا…
تبحث عن الحقيقة."
مدّ الرجل يده إلى الدرج المجاور وأخرج ظرفًا بنيًّا، ناوله لآدم:
"في هذا الظرف، ستجد الحقيقة.
لكن تذكّر: أحيانًا الحقيقة ليست كما نتوقع،
وأحيانًا الحب لا يأتي من حيث نظنّ."
أخذ آدم الظرف بيد مرتجفة، فتحه ببطء.
كانت فيه صورة قديمة لليلى وهي تقف مبتسمة في أحد أروقة الجامعة، لكنها لم تكن وحدها.
بجانبها شاب غريب، يضع يده على كتفها، وتعلو وجهه ابتسامةٌ غامضة.
كانت عينا ليلى في الصورة مليئتين بالخجل، لكن في قلبها شيء آخر.
رفع آدم عينيه إلى الرجل العجوز، وسأله:
"من هذا الشاب؟"
ابتسم العجوز، وقال بصوت عميق:
"هذه هي قصتك القادمة يا آدم.
وهذا هو مفتاحك لتعرف:
هل ستظل تراقبها من بعيد؟
أم أنك مستعدٌّ لتفتح قلبك وتكتشف من تكون ليلى حقًا… وما الذي تخفيه في قلبها؟"
ارتعش قلب آدم أكثر.
شعر أن الظلام في الغرفة لم يكن سوى مرآةٍ للغموض الذي يكتنف روحه.
وبينما كان المطر يهطل خارج النافذة، كان داخله يشتعل بعاصفةٍ أكبر.
لقد أصبح في قلب اللعبة.
وبدأ الفصل الأكثر إثارة في حياته.
الجزء الخامس
وقف آدم في تلك الغرفة التي تشبه متحفًا للأسرار.
ظلّ يحدق في صورة ليلى وهي تقف بجانب ذلك الشاب الغامض.
من يكون هذا الرجل؟
وما علاقته بها؟
وكيف يمكن لصورةٍ واحدة أن تربك كل ما كان يعتقده عن مشاعره نحوها؟
تنهّد الرجل العجوز وقال بنبرة مثقلة بالأسرار:
"آدم، سأخبرك الحقيقة التي خُدعتَ فيها طويلًا:
ذلك الشاب الذي يقف بجانبها… ليس سوى شقيقها."
ارتفع رأس آدم فجأة، وقد شحب وجهه دهشة:
"شقيقها؟!"
أومأ العجوز:
"أجل.
كان يرافقها أحيانًا في الجامعة ليحميها من المضايقات.
لكن الناس فهموا الأمور بشكل خاطئ… حتى أنت كنت من هؤلاء الناس.
أحيانًا، يا بني، ما نراه ليس سوى قناع.
وقلب ليلى… كان دائمًا ينتظر من يزيل ذلك القناع عنها."
اتسعت عينا آدم، شعر كأن جبلًا قد أزيح عن صدره.
كم مرة كان يراها مع ذلك الشاب ويظن أنها تحبه؟
كم مرة بنى جدارًا بينه وبينها دون أن يعرف الحقيقة؟
لكن بقي سؤال واحد يلسع قلبه:
"لماذا كانت ليلى دائمًا باردة تجاهي؟
لماذا لم تسمح لي بالاقتراب منها حتى بعد أن صارحتها؟"
ابتسم الرجل العجوز، ونظر إليه مليًّا:
"لأن ليلى أيضًا كانت تخاف.
كانت قد تعرّضت لخيانةٍ من قبل أحد أقربائها، فصارت تخشى أي علاقة جديدة.
لم يكن الأمر يخصّك وحدك، بل كان قلبها في حربٍ مع الماضي."
شعر آدم بأن قلبه يغلي بالأحاسيس.
أمسك بالظرف من جديد، وكأن الصورة تحولت في يديه إلى بوابةٍ نحو عالمٍ لم يفكر فيه من قبل.
هتف بصوتٍ متهدج:
"لكن… كيف أصل إليها الآن؟
كيف أجعلها تثق بي؟"
نهض الرجل العجوز، وضع يده على كتف آدم وقال:
"عليك أن تثبت لها أن حبك ليس نزوة، بل شجاعة.
أحيانًا، الحب يحتاج إلى تضحية، إلى خطوةٍ لم تكن مستعدًّا لها من قبل."
نظر آدم في عيني الرجل العجوز، فقرأ فيهما حكمةً لم يجدها في أي كتاب.
ثم قال العجوز وهو يهمّ بالخروج:
"ستجد ليلى غدًا في المقهى الذي تحبّ الجلوس فيه.
لا تتراجع هذه المرة.
اقترب منها، تحدث إليها، أخبرها أنك مستعدّ لأن تكون صديقها أولًا…
لعل قلبها يفتح بابه لك."
غادر العجوز، تاركًا آدم في مهبّ العاصفة.
جلس طويلًا، يفكر في كل شيء:
في خيبته، في ظنونه، في ألمه، وفي حلمه الذي كاد يموت قبل أن يولد.
لكن شيئًا في داخله اشتعل:
إنها فرصته الأخيرة، إما أن يكون شجاعًا ويخوض الرحلة، أو يبقى سجين صمته إلى الأبد.
في اليوم التالي، استجمع كل شجاعته.
ذهب إلى المقهى الذي اعتادت ليلى زيارته.
وجدها تجلس قرب النافذة، تراجع بعض الأوراق، يعلو وجهها تركيز غامض.
كانت في غاية الجمال، لكنها أيضًا بدت وكأنها تحمل ثقل العالم على كتفيها.
تردّد للحظة، لكن كلمات الرجل العجوز تردّدت في أذنه:
"أحيانًا، الحب يحتاج إلى خطوةٍ لم تكن مستعدًّا لها."
اقترب منها ببطء، أخذ نفسًا عميقًا.
"مرحبًا ليلى."
رفعت رأسها نحوه، ارتبكت قليلًا، ثم ابتسمت بخجل:
"آدم… مرحبًا."
جلس قبالتها.
لحظة صمتٍ مرّت بينهما.
ثم قال بصوتٍ خافت:
"أنا آسف لو أربكتك عندما فتحت قلبي فجأة.
لم أقصد إحراجك، لكنني لم أعد أتحمل الصمت أكثر."
أخفضت ليلى عينيها، وكأنها تفكر.
ثم رفعت نظرتها إليه، وقالت:
"آدم، أنت شاب رائع.
لكنني… كنت خائفة.
قلبي… مر بتجارب مؤلمة، وصار يخشى أي علاقة جديدة."
ابتسم لها بلطف، ومدّ يده نحو يدها المرتجفة، دون أن يلمسها:
"أنا لا أطلب منك شيئًا،
فقط… أن تمنحيني فرصة لأكون هنا،
كصديق أولًا،
كأخ،عاد آدم إلى شقته تلك الليلة، ورأسه مليء بالأسئلة والآمال.
كانت كلمات ليلى تدور في ذهنه:
"ربما… أحتاج إلى هذا أكثر مما توقعت."
تمنى لو يطرق باب قلبها أكثر، ليكتشف ما لم تبح به بعد.
لكن في منتصف الليل، وصله اتصال آخر من الرقم الغامض الذي اتصل به سابقًا.
تردّد للحظة، ثم ضغط زر الإجابة.
"آدم، كنتُ أعلم أنك ستنجح في الاقتراب من ليلى.
لكن الأمر لم ينتهِ بعد.
ما رأيك أن أقدّم لك شيئًا يغيّر كل شيء؟"
شعر آدم بالتوتر.
"ماذا تقصد؟"
جاءه صوتٌ غامض:
"ليلى ليست كما تظن.
هناك جانب من حياتها لم تعرفه، ولا تظن أنك مستعدٌ لمعرفته.
غدًا، في نفس المقهى الذي التقيتما فيه، ستجد هناك ظرفًا أسود على الطاولة.
فيه سرّ قد يقلب كل شيء.
احذر… أحيانًا، الحقيقة أخطر من الأكاذيب."
أُغلق الخط قبل أن يردّ.
جلس آدم في الظلام، تتسابق دقات قلبه.
هل ما زال هناك سرٌّ أكبر من ذلك الذي اكتشفه عن شقيقها؟
وهل هي ضحية أم شريكة في لعبة أكبر من كليهما؟
---
في الصباح، شعر أن العالم تغيّر.
ذهب إلى الجامعة، لكنه لم يستطع التركيز.
لم يكن يرى سوى وجه ليلى، وصوت الغامض الذي يطارده بأسئلته المربكة.
قرر أن يذهب إلى المقهى في الموعد المحدد.
وصل قبل الوقت بدقائق، اختار طاولة في الزاوية، وانتظر.
بعد لحظات، رأى نادلاً يضع ظرفًا أسود صغيرًا على الطاولة المقابلة له.
نظر حوله فلم يجد أحدًا يراقبه.
تردّد، لكن قلبه دفعه لالتقاط الظرف.
فتحه ببطء، ليجد فيه صورة قديمة بالأبيض والأسود.
كانت الصورة تُظهر ليلى وهي تقف في أحد الأحياء الشعبية، إلى جانب رجل غريب الملامح.
على ظهر الصورة، كُتبت كلمات بخطٍ مائل:
"ليس كل ما تراه في حياتها بريئًا."
ارتبك آدم.
من هذا الرجل في الصورة؟
وهل كانت ليلى تخفي عنه شيئًا؟
لكن قلبه رفض التصديق، فهو يعرف ليلى بطهرها وبراءتها.
أعاد النظر في الصورة مرات ومرات.
أحس أن هناك لغزًا أكبر، وأن أحدهم يحاول اللعب بمشاعره.
بينما هو شارد، سمع خطوات خفيفة تقترب منه.
رفع رأسه ليجد ليلى واقفة أمامه، تحمل كتابًا في يدها، وملامحها شاحبة قليلاً.
"آدم، لماذا أراك مرتبكًا اليوم؟"
تردّد للحظة، ثم قال وهو يحاول إخفاء توتره:
"هناك… شخص ما يعبث بي.
يحاول أن يجعلني أشكّ فيك."
اتسعت عيناها دهشة:
"فيَّ أنا؟!
لماذا؟"
أخرج الصورة ووضعها أمامها.
"ليلى، من هذا الرجل؟"
تسمّرت ليلى في مكانها، تجمّد وجهها للحظة، ثم قالت بصوتٍ خافت:
"آدم، هذه الصورة قديمة جدًا.
هذا الرجل… إنه أبي."
اتسعت عينا آدم دهشة:
"أبوكِ؟"
أومأت برأسها، ودمعة وحيدة تساقطت على وجنتها:
"لقد توفي قبل سنوات.
وكان… له ماضٍ صعب، ارتكب أخطاءً كبيرة.
لكنني لست مسؤولة عن ماضيه.
آدم…
هل ستسمح لأشباح الماضي أن تدمّر ما بيننا قبل أن يبدأ؟"
شعر آدم أن قلبه يخفق بقوة.
أمسك يدها برفق، وهمس:
"أنا لا يهمّني الماضي يا ليلى.
أنا أريدك أنتِ،
هنا… الآن."
ابتسمت بخجل، ومرّت لحظة من الصمت بينهما قبل أن تهمس:
"وأنا… أحتاج لهذا أيضًا."
لكن في تلك اللحظة، لمح آدم من النافذة ظلًا يراقبهما من بعيد.
شخصٌ مجهول يقف في زاوية الشارع، ينظر إليهما بتركيزٍ مخيف.
شعر بقشعريرةٍ في جسده.
من هذا الشخص؟
هل هو صاحب الظرف الأسود؟
وهل انتهت اللعبة أم بدأت للتو؟
---
وفي قلب الليل،
شعر آدم أن الحبّ لا يُختبر إلا وسط الظلال.
وأن عليه أن يكون أقوى من الرياح التي تحاول إطفاء شمعة قلبه.
فهذه ليست مجرد قصة حب،
بل لعبةٌ معقدة بين الماضي والحاضر…
بين الحقيقة والوهم…
بين قلبين يحاولان النجاة من كل شيء.
وهكذا…
تواصلت اللعبة،
وانفتح الباب لفصلٍ جديد من الحكاية.
كحارس لأحلامك.
وحينما تكونين مستعدة،
قد أكون أيضًا الرجل الذي يليق بقلبك."
ابتسمت ليلى، وبدا في عينيها بريقٌ خافت من الدموع.
"أنت لطيف يا آدم…
ربما… أحتاج إلى هذا أكثر مما توقعت."
ابتسم بدوره، شعر أن قلبه خفيفٌ أخيرًا.
هذه البداية التي كان يتمناها.
ربما لم يكن الحب هو القبلة الأولى، بل تلك المسافة الصغيرة التي اجتازها من الخوف إلى الصدق.
بينما كان المطر يتساقط في الخارج، شعر آدم أن شتاء قلبه يذوب أخيرًا، وأن الربيع على الأبواب.
وهكذا بدأت قصتهما،
ليس كعاشقين فقط،
بل كصديقين…
وعلى تلك الطاولة، كان أول خيطٍ يربط قلبين،
في حكايةٍ لم تنتهِ بعد.
عاد آدم إلى شقته تلك الليلة، ورأسه مليء بالأسئلة والآمال.
كانت كلمات ليلى تدور في ذهنه:
"ربما… أحتاج إلى هذا أكثر مما توقعت."
تمنى لو يطرق باب قلبها أكثر، ليكتشف ما لم تبح به بعد.
لكن في منتصف الليل، وصله اتصال آخر من الرقم الغامض الذي اتصل به سابقًا.
تردّد للحظة، ثم ضغط زر الإجابة.
"آدم، كنتُ أعلم أنك ستنجح في الاقتراب من ليلى.
لكن الأمر لم ينتهِ بعد.
ما رأيك أن أقدّم لك شيئًا يغيّر كل شيء؟"
شعر آدم بالتوتر.
"ماذا تقصد؟"
جاءه صوتٌ غامض:
"ليلى ليست كما تظن.
هناك جانب من حياتها لم تعرفه، ولا تظن أنك مستعدٌ لمعرفته.
غدًا، في نفس المقهى الذي التقيتما فيه، ستجد هناك ظرفًا أسود على الطاولة.
فيه سرّ قد يقلب كل شيء.
احذر… أحيانًا، الحقيقة أخطر من الأكاذيب."
أُغلق الخط قبل أن يردّ.
جلس آدم في الظلام، تتسابق دقات قلبه.
هل ما زال هناك سرٌّ أكبر من ذلك الذي اكتشفه عن شقيقها؟
وهل هي ضحية أم شريكة في لعبة أكبر من كليهما؟
---
في الصباح، شعر أن العالم تغيّر.
ذهب إلى الجامعة، لكنه لم يستطع التركيز.
لم يكن يرى سوى وجه ليلى، وصوت الغامض الذي يطارده بأسئلته المربكة.
قرر أن يذهب إلى المقهى في الموعد المحدد.
وصل قبل الوقت بدقائق، اختار طاولة في الزاوية، وانتظر.
بعد لحظات، رأى نادلاً يضع ظرفًا أسود صغيرًا على الطاولة المقابلة له.
نظر حوله فلم يجد أحدًا يراقبه.
تردّد، لكن قلبه دفعه لالتقاط الظرف.
فتحه ببطء، ليجد فيه صورة قديمة بالأبيض والأسود.
كانت الصورة تُظهر ليلى وهي تقف في أحد الأحياء الشعبية، إلى جانب رجل غريب الملامح.
على ظهر الصورة، كُتبت كلمات بخطٍ مائل:
"ليس كل ما تراه في حياتها بريئًا."
ارتبك آدم.
من هذا الرجل في الصورة؟
وهل كانت ليلى تخفي عنه شيئًا؟
لكن قلبه رفض التصديق، فهو يعرف ليلى بطهرها وبراءتها.
أعاد النظر في الصورة مرات ومرات.
أحس أن هناك لغزًا أكبر، وأن أحدهم يحاول اللعب بمشاعره.
---
بينما هو شارد، سمع خطوات خفيفة تقترب منه.
رفع رأسه ليجد ليلى واقفة أمامه، تحمل كتابًا في يدها، وملامحها شاحبة قليلاً.
"آدم، لماذا أراك مرتبكًا اليوم؟"
تردّد للحظة، ثم قال وهو يحاول إخفاء توتره:
"هناك… شخص ما يعبث بي.
يحاول أن يجعلني أشكّ فيك."
اتسعت عيناها دهشة:
"فيَّ أنا؟!
لماذا؟"
أخرج الصورة ووضعها أمامها.
"ليلى، من هذا الرجل؟"
تسمّرت ليلى في مكانها، تجمّد وجهها للحظة، ثم قالت بصوتٍ خافت:
"آدم، هذه الصورة قديمة جدًا.
هذا الرجل… إنه أبي."
اتسعت عينا آدم دهشة:
"أبوكِ؟"
أومأت برأسها، ودمعة وحيدة تساقطت على وجنتها:
"لقد توفي قبل سنوات.
وكان… له ماضٍ صعب، ارتكب أخطاءً كبيرة.
لكنني لست مسؤولة عن ماضيه.
آدم…
هل ستسمح لأشباح الماضي أن تدمّر ما بيننا قبل أن يبدأ؟"
شعر آدم أن قلبه يخفق بقوة.
أمسك يدها برفق، وهمس:
"أنا لا يهمّني الماضي يا ليلى.
أنا أريدك أنتِ،
هنا… الآن."
ابتسمت بخجل، ومرّت لحظة من الصمت بينهما قبل أن تهمس:
"وأنا… أحتاج لهذا أيضًا."
لكن في تلك اللحظة، لمح آدم من النافذة ظلًا يراقبهما من بعيد.
شخصٌ مجهول يقف في زاوية الشارع، ينظر إليهما بتركيزٍ مخيف.
شعر بقشعريرةٍ في جسده.
من هذا الشخص؟
هل هو صاحب الظرف الأسود؟
وهل انتهت اللعبة أم بدأت للتو؟
وفي قلب الليل،
شعر آدم أن الحبّ لا يُختبر إلا وسط الظلال.
وأن عليه أن يكون أقوى من الرياح التي تحاول إطفاء شمعة قلبه.
فهذه ليست مجرد قصة حب،
بل لعبةٌ معقدة بين الماضي والحاضر…
بين الحقيقة والوهم…
بين قلبين يحاولان النجاة من كل شيء.
وهكذا…
تواصلت اللعبة،
وانفتح الباب لفصلٍ جديد من الحكاية.
الجزء السادس والاخير
عاد آدم إلى شقته وهو يحاول ترتيب أفكاره المشتتة.
كان يحدّق في الصورة التي رأى فيها ليلى إلى جانب ذلك الرجل الغريب، قبل أن يعرف أنه والدها.
لكن ظلال ذلك المجهول الذي كان يراقبهما من خلف زجاج المقهى ما زالت تلاحقه كطيفٍ مظلم، يبعث في نفسه قلقًا لم يعرفه من قبل.
حاول أن يقنع نفسه بأن الأمر قد انتهى، وأنه فهم الحقيقة أخيرًا: ليلى لم تكن تخفي عنه سوى ذكريات أليمة، وهي لم تكن طرفًا في مؤامرة كما أوحى له الصوت المجهول.
لكن داخله ظلّ مضطربًا، كأن شيئًا ما لا يزال ناقصًا، كأن الحقيقة لم تنكشف بالكامل بعد.
لم يستطع النوم تلك الليلة.
كان يسمع صدى صوته في المقهى حين وعد ليلى بأن يكون لها صديقًا وحاميًا، وأيضًا يسمع صدى كلمات ذلك الغريب:
"ليس كل ما تراه في حياتها بريئًا."
تساءل في نفسه:
هل كان والدها مجرّد ذكرى عابرة أم أن للماضي أنيابًا أطول مما يظن؟
وهل سينتهي الأمر عند ذلك الظرف الأسود، أم أن هناك من يصرّ على قتله بالأسئلة التي لا يملك لها جوابًا؟
مرّت ساعات الليل ثقيلة.
وعند الفجر، قرر أن يراها ثانية، ليطمئن قلبه ويزيل تلك الظنون التي تلتف حوله مثل أفعى.
في اليوم التالي، عاد إلى المقهى، وجلس في الزاوية نفسها.
كان قلبه يخفق بقوة كلما تذكّر نظرة ليلى المليئة بالدموع في اليوم السابق.
لم يتأخر كثيرًا حتى رآها تدخل، ترتدي معطفًا رماديًا وشالًا يلفّ عنقها بخفة.
ابتسمت له ببراءة، فتبدّدت نصف مخاوفه، لكن الجزء الآخر منها ظلّ متربصًا.
اقتربت وجلست أمامه، وضعت حقيبتها على الطاولة، وقالت بصوتٍ هادئ:
"آدم… أنا سعيدة أنك عدت.
كنت أخشى أن تبتعد بعد كل ما حدث."
تأمل ملامحها الطفولية الممزوجة بشيء من النضج، شعر بدفء في صدره، وقال:
"أنا هنا.
ولن أذهب إلى أي مكان."
ثم تردّد قليلًا، وسألها:
"لكن… ذلك الشخص الذي كان يراقبنا أمس… من يكون؟"
تغيّر لون وجهها قليلًا، بدت وكأنها تفاجأت، ثم قالت:
"أي شخص تقصد؟"
شعر بالريبة، لكنها لم تدم طويلًا، إذ بدا أن الدهشة في عينيها حقيقية.
أجاب:
"كان هناك رجل يقف في زاوية الشارع، يراقبنا.
أحسست أنه ليس غريبًا على هذه اللعبة."
تنهّدت ليلى، وأطرقت رأسها للحظة قبل أن تقول:
"آدم…
هناك أشياء كثيرة في حياتي لم أخبرك بها بعد.
لا لأنني لا أثق بك، بل لأنني أخشى أن تؤذيك."
شعر قلبه ينقبض، فأمسك يدها برفق.
"أنا هنا لأساعدك، مهما كان الأمر."
رفعت عينيها إليه، وقد امتلأتا بالدموع، وقالت:
"أبي…
لم يكن مجرد رجل عادي يا آدم.
لقد كان يعمل في تجارة مشبوهة، وهناك أشخاص ما زالوا يلاحقونني أحيانًا ظنًا منهم أني أعرف شيئًا عن صفقاته.
أنا لا أعرف شيئًا، أقسم لك…
لكنهم يظنون العكس.
ربما ذلك الرجل الذي رأيته… هو أحدهم."
شعر آدم برعشةٍ في قلبه، كأن حبه تحوّل فجأة إلى ساحة معركة.
لكنه تمالك نفسه، وأحنى رأسه قليلًا، ثم قال:
"أنا هنا يا ليلى.
ولن أتركك وحدك في هذه الحرب.
حتى لو اضطررت لمواجهة كل أشباح ماضيك."
ترددت، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة، وكأنها تشكر القدر لأنه أرسل لها هذا القلب الصادق.
"آدم…
أحيانًا أشعر أن لقائي بك هو الشيء الوحيد الصادق الذي حدث لي منذ زمن طويل."
مدّ يده ومسح دمعتها، وهمس لها:
"إذن دعينا نمشي في هذا الطريق معًا.
يدًا بيد، حتى لو كان الطريق مظلمًا.
أنا هنا."
ابتسمت وسط دموعها، وكأنها رأت فيه الأمل الذي افتقدته طويلًا.
لكن وسط تلك اللحظة الدافئة، رنّ هاتف آدم فجأة برسالة قصيرة:
"الحب جميل يا آدم، لكنه لا يحميك من الحقيقة.
استعد للمفاجأة غدًا."
قرأها، وشعر بالدم يجمد في عروقه.
لم يخبر ليلى بمحتواها، لكنه أدرك أن الظلال ما زالت أطول من أن يبددها الحب وحده.
نظر إليها، وابتسم لها ليخفي خوفه.
كانت تبتسم له، لكنها لم تكن تعلم أن قصة قلبها قد بدأت للتو، وأن الأيام القادمة ستكشف لهما أسرارًا أكبر وأعمق مما تخيّلا.
وهكذا…
جلسا هناك، في مقهى صغير، بين فنجاني قهوة ونظرات مليئة بالتساؤلات،
وما بين قلبين لم يكتشفا بعد أن لعبة القدر لم تبدأ بعد.
كانت الشمس تشرق بخجلٍ في سماء صافية حين قرر آدم مواجهة كل شيء.
لم يعد بإمكانه الهروب من الأسئلة التي تحيط به: من الرجل الغامض الذي يلاحقهما؟ وهل هناك من يريد تمزيق قلبه الذي بدأ ينبض بحب ليلى؟
أخذ نفسًا عميقًا واتجه إلى نفس المقهى الذي صار شاهدًا على كل لحظاتهما.
جلس في الزاوية المعتادة، وانتظر أن تأتي ليلى، لكن قلبه لم يهدأ.
كلما تذكّر الرسالة الأخيرة، شعر أن النهاية تقترب… أو ربما البداية الحقيقية.
بعد دقائق، دخلت ليلى، يعلو وجهها القلق.
"آدم…
كنتُ خائفة عليك.
هل حدث شيء جديد؟"
ابتسم لها بحنانٍ رغم كل شيء، وأجابها:
"ليلى…
لا أريد أن أعيش في الظل بعد الآن.
نحن معًا في هذه اللعبة.
وأنا… لن أدع أحدًا يفرّقنا."
همست وهي تضم يديها بتوتر:
"لكني خائفة عليك، هؤلاء الذين يطاردوننا لا يرحمون."
ردّ وهو يلتقط أنفاسه:
"إذن فلننهي هذه اللعبة اليوم."
وبينما كانا يتحدثان، دخل رجل غريب إلى المقهى، يرتدي قبعة داكنة ونظارة شمسية أخفت ملامحه.
اقترب منهما بخطى واثقة، ووضع ظرفًا بنيًا صغيرًا على الطاولة.
قال بصوتٍ أجشّ:
"آن الأوان أن تعرف الحقيقة."
ثم ابتعد دون أن ينتظر ردّهما.
تبادل آدم وليلى نظرة متوترة.
مدّ آدم يده، فتح الظرف ببطء، ليجد بداخله تقريرًا مفصلاً.
قرأ الكلمات بصوتٍ خافت:
"ليلى بريئة.
كل شيء كان خطة من أعداء والدها لتوريطها واستغلالها كورقة ضغط."
شهقت ليلى وهي تغطي فمها بيدها، وامتلأت عيناها بالدموع.
"هذا يعني… أنني بريئة فعلًا… يا إلهي!"
ضمّها آدم إليه بقوة، كأنه يحتضن روحها، وهمس في أذنها:
"كنت أعرف ذلك دائمًا.
كنت أعرف أن قلبك أنقى من كل الأكاذيب."
بكت في حضنه، والدموع تختلط بابتسامتها.
"آدم… شكرًا لأنك كنت هنا.
لو كنتُ وحدي، لكنتُ ضائعة."
نظر إليها بعينين مليئتين بالحب واليقين:
"ليلى…
هذه قصتنا.
والآن، يمكننا أن نبدأ من جديد."
رفعت وجهها إليه، وقالت بابتسامة امتزجت فيها الدموع والفرح:
"إذن… أنت لا تزال هنا؟"
ضحك آدم، وهو يمسح دموعها بأصابعه:
"أنا هنا…
ودائمًا سأكون."
خرج الاثنان من المقهى معًا، وقد امتلأت خطواتهما بالأمل واليقين.
كانت شمس الأصيل تداعب وجهيهما، وكأنها تبارك لهما بداية جديدة،
بعيدًا عن الظلال،
وفي قلب الحقيقة…
حيث لا مكان إلا للنور والحب.
وهكذا، انتهت لعبة القدر،
وبدأت حكايتهما…
حكاية قلبين اختارا الحب…
رغم كل شيء.
النهاية.
آدم شاب في الخامسة والعشرين من عمره، هادئ ومتواضع، يعمل في مجال البرمجة. بدا للآخرين عاديًا جدًا، لكن داخله كان يخفي حياة كاملة من المشاعر، حياة يختزن فيها حبًا صامتًا لفتاةٍ لم تدرك يومًا مكانتها في قلبه.
ليلى، في الثالثة والعشرين، فتاة نشيطة مليئة بالحيوية، تخرجت حديثًا من الجامعة وبدأت رحلتها العملية في شركة استشارات. كانت من النوع الذي يملأ الأمكنة ضحكًا وحديثًا مع صديقاتها، لا تفارق ابتسامتها شفتيها، ولا ينطفئ بريق الأمل من عينيها.
كان آدم يسبقها في الدراسة بسنتين، وكان يراها كثيرًا في ساحات الجامعة حين كانت تجلس مع زميلاتها، أو تتحدث بحماسٍ عن مشاريعها.
كانت تلمحه أحيانًا، نظرات عابرة، مجرد وجه عابر في زحام الطلاب.
لكنها لم تكن توليه اهتمامًا، منشغلة بدراستها وأحلامها، وكأن وجوده لم يكن أكثر من ظل عابر في رصيف الجامعة.
أما بالنسبة لآدم، فكان حضورها يملأ روحه بأحاسيس يصعب وصفها.
كان يلتقط ضحكتها، حركاتها، وحتى تلك اللحظة الصغيرة حين تسرح بأفكارها، فيحاول أن يقرأ ما يدور في بالها.
لم يجرؤ يومًا على الاقتراب، اكتفى بالصمت، يراقبها من بعيد، يحرس حبًا لا صوت له.
مرت الأيام، وتخرجت ليلى، وبدأت حياتها المهنية.
لم يكن آدم قد نسيها، فحتى بعد مغادرتها الجامعة، كان يراها أحيانًا تمر بالقرب من المقهى الذي اعتاد الجلوس فيه، تضحك مع صديقة، أو تراجع أوراقها في يدها، ترحل في أفكارها.
كان يراها تمضي، فلا يملك سوى أن يراقبها كعادته، من خلف الزجاج.
ذات ليلة ممطرة، جلس آدم في زاويته المعتادة، يقلب صفحات دفتره الصغير.
كتب فيه كلمات لم يجرؤ على البوح بها:
"ليلى، كنتِ دومًا قريبة جدًا… وبعيدة جدًا."
وفجأة، دخلت ليلى المقهى، هاربة من المطر.
شعرها مبلل قليلًا، نظراتها تحمل توترًا خفيفًا.
توقفت لبرهة بجانب الطاولة التي يجلس عندها، تبادل معها نظرة عابرة، لكنها سرعان ما حولت بصرها، وكأنها تتجنب لقاء عينيه.
"هل لاحظتني حقًا، أم كنت مجرد عابر سبيل؟"
تساءل في نفسه وهو يراقب خطواتها.
خرجت بسرعة بعد أن حيّت صديقتها عند الباب.
ونهض آدم مترددًا، لحقها بعينيه وهو يردد:
"كم تمنيت لو توقف الزمن هنا، فقط لأخبرك بكل شيء."
وفجأة، جلس أمامه رجل غامض، وضع حقيبة صغيرة على الطاولة وقال بنبرة منخفضة:
"آدم، اللعبة بدأت. عليك أن تختار الآن قبل أن يُغلق كل شيء."
تجمدت نظرات آدم، شعر بالخوف والدهشة.
ماذا تعني هذه الحقيبة؟
وهل حان الوقت ليكسر حاجز صمته، ويبوح بقلبه المخبأ؟
أم أن هناك سرًا أكبر يترصده في الخفاء؟
وترددت في ذهنه كلمات جدته:
"الحب، يا بني، ليس فقط أن تحب، بل أن تواجه خوفك، وتخوض المغامرة، ولو خُضت الطريق وحدك."
ترى، هل يمتلك آدم الشجاعة ليخرج من صمته؟
وهل ستكتشف ليلى يومًا أن قلبًا كان يحرسها بصمت منذ البداية؟
بينما كان المطر يتساقط خارج المقهى، بدا كل شيء في قلب آدم وكأنه يغرق في دوامة من المشاعر.
جلس أمامه الرجل الغامض، عيونه الداكنة تتأمل حقيبته الصغيرة، وكأنها تحمل سرًا أكبر من مجرد لقاء عابر.
اقترب الرجل من آدم وقال بصوت منخفض:
"آدم، هذه فرصتك. أحيانًا تُختبر قلوبنا في لحظة، إما أن تختار وإما أن تُضيّع كل شيء."
شعر آدم بأن قلبه يخفق بقوة، ارتبك، تردّد.
"ماذا تقصد؟" سأل وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه.
أجابه الرجل الغامض بابتسامة خفيفة:
"القصة بدأت منذ زمن، لكن النهاية تُكتب الآن. بينك وبينها طريق طويل، مفترق طرق، واختيار صعب.
قد لا تدرك هي أنك كنت هناك دومًا، تراقبها، تخشى أن تقترب، لكن كل شيء سيتغيّر قريبًا."
رمق آدم الحقيبة بقلق، ثم رفع نظره، لكنه وجد المقعد أمامه خاليًا.
اختفى الرجل كأنه شبح، وبقي آدم وحيدًا مع قلبه المثقل بالأسئلة.
التقط الحقيبة بيدين مرتجفتين، شعر بثقل غامض يسكنها، وكأنها تحتوي على مستقبله بالكامل.
وفجأة شعر بداخلها بخارطتين؛ واحدة تؤدي إلى طريق مجهول، والأخرى تحمل مفترقًا قد يوصله إلى ليلى.
"يا إلهي، هل حان الوقت لأختار مصيري؟"
سأل نفسه بصمت.
وفي عينيه لمعان خوف وأمل.
الجزء الثاني
بين الخوف والرجاء
مرت أيام لم يرَ فيها ليلى، وكأن الرياح حملتها بعيدًا.
لكنه كان يشعر بها في كل نسمة هواء تمر من حوله، في صوت ضحكة عابرة، في ظل شجرة كانا يجلسان قربها في الحرم الجامعي ذات يوم.
لم يكن يعلم إن كان حبّه مجرّد حلم عابر، أم قدَرًا يلاحقه كظلّه.
ظل يحمل الحقيبة معه كل يوم، وكأنها أصبحت جزءًا من كيانه.
كان يعلم أن قرارًا ما ينتظره، قرارًا قد يغير كل شيء.
في تلك الليلة، خرج آدم من المقهى، سار تحت المطر، كل خطوة كانت تطرق قلبه مثل خيوط مطرٍ لا ترحم.
فجأة، لمح ليلى على الرصيف المقابل، تضحك مع صديقة، كأن شيئًا لم يكن، بريئة، لا تدري أن أحدهم يحمل قلبه كأمانة لها.
توقف الزمن للحظة، نظر إليها طويلاً، شعر بأن قلبه يناديها، لكن صوته خافت لا يُسمع.
أخرج من حقيبته تلك الورقة التي تحمل مفترق الطرق.
كان يعرف أن عليه الاختيار.
"هل أخبرها؟
أم أبقى خلف الزجاج، أراقب من بعيد، وأحمل حبّي معي كسرّ لا يموت؟"
في تلك اللحظة، سمع صوت جدته يتردّد في ذهنه:
"الحب يا بني، امتحان من نوع آخر، إما أن تنجح فيه أو أن تخسره للأبد."
أخذ نفسًا عميقًا، وحدّق في الحقيبة، ثم أغلق عينيه.
"يا ليلى… هل تسمعينني الآن؟"
لكن حين فتح عينيه، وجدها قد اختفت وسط الزحام، تاركةً قلبه وحيدًا في مفترق الطرق.
ليالٍ مرت منذ تلك الليلة الممطرة، وآدم ما زال يتردد في فتح تلك الحقيبة الغامضة.
كلما همّ بفعل ذلك، ترددت في ذهنه صورة ليلى: وجهها المشرق، ضحكتها العذبة، عيناها البريئتان اللتان كانت تمرّ بهما عليه مرور الكرام، وكأن قلبه ليس سوى عابر طريق.
جلس في غرفته تلك الليلة، أمسك الحقيبة بيد مرتجفة، فتحها أخيرًا.
وجد بداخلها رسالة مكتوبة بخطٍ جميل:
"يا آدم، الحبّ رحلة، لكنك لا تستطيع أن تبقى راكبًا في المقعد الخلفي طوال الوقت. عليك أن تمسك المقود، أن تختار، أن تخطو. وإلا ستفقدها إلى الأبد."
ارتجف قلبه، شعر كأن الكلمات سُكبت في عروقه نارًا.
"هل حان الوقت؟"
سأل نفسه.
في صباح اليوم التالي، خرج مبكرًا، مرّ بالقرب من الجامعة القديمة حيث كان يراها دائمًا.
وقف عند ذات الزاوية التي كان يراقبها منها.
رأى ليلى مع صديقتها، تضحك، تلوّح بيدها، كعادتها، وكأن شيئًا لم يتغير.
لكنه شعر هذه المرة بأن قلبه لم يعد يحتمل الصمت.
اقترب ببطء، يده تكاد ترتعش، حاول أن يلتقط أنفاسه.
حين اقترب أكثر، شعرت ليلى بوجوده، التفتت نحوه، وارتسمت على وجهها نظرة دهشة.
كانت تلك اللحظة كأنها حُبست في قارورة زمنية، لا صوت إلا نبضات قلبه.
ابتسم لها، وتلعثم قليلًا قبل أن يقول:
"مرحبا ليلى…"
نظرت إليه، ارتبكت قليلًا، ثم ابتسمت بأدب:
"آدم… أليس كذلك؟ أظنني رأيتك من قبل في الجامعة."
شعر كأن قلبه كاد يقفز من صدره.
"نعم… كنت أراك كثيرًا… كنتِ دائمًا… مشرقة."
ضحكت ضحكة خفيفة، بدت مرتبكة، ثم قالت:
"هذا لطف منك… شكرًا."
تردّد، شعر أن الكلمات تخونه، لكنه تذكّر الرسالة في الحقيبة.
تنهد وقال:
"أعرف أن هذا قد يبدو غريبًا… لكنني كنت أراقبك منذ سنوات، أحببت ضحكتك، طريقتك، كل شيء فيك… لكنني لم أجرؤ على الاقتراب.
والآن… لا أريد أن أضيع الفرصة."
صمتت ليلى، بدت متفاجئة، نظرت نحوه طويلاً، وكأنها تقرأ قصته بين السطور.
ثم قالت بهدوء:
"آدم… أنت شخص طيب.
لكن… لم أفكر بك يومًا بهذه الطريقة.
كنتُ مشغولة بدراستي، وحياتي، وأحلامي.
أنا آسفة… لكنني لا أستطيع أن أبادلك نفس الشعور."
كادت دمعة أن تنزل من عينيه، لكنه تمالك نفسه.
ابتسم وقال:
"لا عليك…
كنت فقط بحاجة لأن تعرفي الحقيقة… لكي أستطيع المضي قدمًا."
شكرته بلطف، وربتت على كتفه بخفة، ثم ابتعدت مع صديقتها.
وقف آدم هناك، يشعر وكأن جبلًا انزاح عن صدره.
كانت تلك الكلمات الجريئة قد حررته أخيرًا.
رفع رأسه نحو السماء الملبدة بالغيوم، شعر ببعض الدفء في صدره.
"ربما هي البداية… بداية شجاعة جديدة."
في تلك اللحظة، دق هاتفه برسالة جديدة:
"آدم، اللعبة لم تنتهِ بعد.
انتظر مني اتصالًا، فأنت على وشك الدخول في فصل جديد."
قرأ الرسالة، شعر بقشعريرة في ظهره.
"من هذا الشخص؟
ولماذا أشعر أن قلبي على موعد مع رحلة أكبر مما توقعت؟"
وهكذا، انتهى ذلك النهار بمفترق طرق جديد،
حيث الحب، والغموض، والشجاعة…
يتقاطعون في قلبٍ واحد.
الجزء الثالث
بوابة الغموض
5كانت الشمس قد بدأت تودّع السماء، تاركةً خيوطًا حمراء كالدم في الأفق.
جلس آدم في مقهى هادئ بعيدًا عن الجامعة، يرتشف قهوته السوداء ببطء، كأنها تعينه على استعادة شجاعته التي فقدها حين وقفت ليلى أمامه، وقالت كلماتها التي كسرت قلبه.
ظلّ يفكر في كل شيء:
هل أخطأ حين صارحها فجأة؟
هل كان يجب أن يبقى في الظل أكثر؟
لكنه في النهاية شعر بأن تلك المواجهة كانت ضرورية، كأنها حررته من قيدٍ كان يلفّه لسنوات.
تذكر الرسالة الغامضة:
"آدم، اللعبة لم تنتهِ بعد.
انتظر مني اتصالًا، فأنت على وشك الدخول في فصل جديد."
تساءل:
من هذا الشخص؟
هل يعبث به أحدهم؟
أم أن هناك سرًا أكبر لم يكتشفه بعد؟
رنّ هاتفه فجأة، فانتفض من مكانه.
رقم غريب، لم يكن مسجلًا في ذاكرته.
تردّد قليلًا قبل أن يردّ، ثم رفع الهاتف إلى أذنه:
"مرحبًا؟"
جاءه صوت رجولي هادئ، بنبرة غامضة:
"آدم… أعرف ما حدث بينك وبين ليلى.
أعرف كل شيء."
اتسعت عينا آدم، تملّكه الرعب:
"من أنت؟ وكيف عرفت؟"
ضحك الرجل بهدوء، ثم قال:
"لا تهتمّ الآن بهويتي.
المهم أن تعرف أن القصة لم تنتهِ بعد.
أنت الآن أمام مفترق طرق آخر:
إما أن تغلق الباب الذي فتحته، وتنسى ليلى إلى الأبد…
أو أن تكتشف ما وراء قلبها، ما لم تُظهره لك يومًا."
أحسّ آدم كأن قلبه توقف.
"هل تمزح؟ لقد قالتها صريحة، إنها لا تشعر بي، فما الذي يمكن أن يتغير؟"
ردّ الرجل:
"أحيانًا، يا آدم، يكون ما نظنه نهائيًا مجرّد بداية.
هل تعلم أن ليلى تحمل سرًا لم تكتشفه بعد؟
هل تعلم أن قلبها لم يكن يومًا خاليًا… لكنك كنت تقف في المكان الخطأ والوقت الخطأ؟"
تجمدت يده على الطاولة.
"سر؟ أي سر؟"
الجزء الرابع
توقفنا في الجزء السابق لما الرجل الغامض قال لادم ان ليلى تحمل سر لم يكتشفه ادم ، ونظر اليه ادم مندهشا ويدية متجمدة على الطاولة وقال : سر ؟ أي سر تحمله ليلى ؟؟
أجاب الرجل:
"لا أستطيع أن أخبرك الآن، لكن عليك أن تأتي غدًا في الساعة التاسعة مساءً إلى العنوان الذي سأرسله لك.
إن كنت حقًا تريد أن تعرف من هي ليلى… ومن أنت في حياتها…
عليك أن تأتي."
ثم أُغلق الخط.
جلس آدم في مكانه، يشعر كأن الأرض تدور من تحته.
كانت يداه ترتعشان.
أمسك هاتفه مجددًا، فوجد رسالة جديدة:
"العنوان: شارع الأندلس، البناية رقم 17، الطابق الثالث.
غدًا – 9:00 مساءً."
أعاد قراءة الرسالة مرارًا.
هل هي خدعة؟
هل يجرّونه إلى فخٍّ ما؟
لكن الفضول انتصر عليه، ومعه قلبه الذي ما زال ينبض باسم ليلى.
"لا بد أن أعرف، حتى لو كانت النهاية صادمة."
في تلك الليلة، لم يغمض له جفن.
تقلّب في فراشه، تذكّر لحظة وقوف ليلى أمامه، صوتها الهادئ وهي تقول:
"آدم… أنت شخص طيب… لكنني لا أستطيع أن أبادلك نفس الشعور."
هل كانت تقول الحقيقة؟
أم أنها كانت تخفي شيئًا في قلبها؟
مع بزوغ الفجر، شعر بقرارٍ يختلج في صدره:
سيذهب إلى ذلك العنوان، سيكتشف الحقيقة كاملة.
مهما كان الثمن.
---
عندما حلّ الليل، ارتدى آدم ملابسه بعناية.
توجّه إلى العنوان المحدد، وكل خطوة كان قلبه يدقّ بقوة أشد.
وصل إلى البناية، صعد الدرج ببطء.
عند الطابق الثالث، وقف أمام باب خشبي قديم، طُرِقَ عليه الرقم 17 بلون باهت.
تردّد قبل أن يطرق الباب.
دقات قلبه كانت أعلى من صوت المطر الذي بدأ يهطل في الخارج.
فتح الباب رجل مسنّ، يرتدي نظارات سميكة، بدت على وجهه علامات الحكمة والغموض.
"آدم، تفضّل بالدخول."
دخل بخطوات حذرة.
كانت الغرفة مليئة بالكتب القديمة والخرائط المبعثرة، كأنها غرفة أسرار.
جلس الرجل أمامه، وبدأ الحديث:
"آدم، كنت تراقب ليلى طويلًا، صحيح؟"
هزّ رأسه بصمت.
"لكن هل سألت نفسك يومًا: لماذا لم تلتفت إليك؟
هل كان قلبها حقًا خاليًا من كل شيء… أم أن في قلبها حُبًا آخر لم تُفصِح عنه؟"
تسارعت أنفاس آدم.
"أخبرني… هل أحبّت شخصًا آخر؟"
أجاب الرجل العجوز، وقد بدت عيناه تلمعان تحت ضوء المصباح:
"هي لم تحب أحدًا… لكنها كانت تخاف أن تُجرح.
قلبها مليء بالخوف والذكريات القديمة، وأنت كنت دائمًا بعيدًا جدًا وقريبًا جدًا في آنٍ واحد.
لكن الغريب أن قلبك أنت أيضًا مليء بالأسئلة.
وها أنت الآن هنا…
تبحث عن الحقيقة."
مدّ الرجل يده إلى الدرج المجاور وأخرج ظرفًا بنيًّا، ناوله لآدم:
"في هذا الظرف، ستجد الحقيقة.
لكن تذكّر: أحيانًا الحقيقة ليست كما نتوقع،
وأحيانًا الحب لا يأتي من حيث نظنّ."
أخذ آدم الظرف بيد مرتجفة، فتحه ببطء.
كانت فيه صورة قديمة لليلى وهي تقف مبتسمة في أحد أروقة الجامعة، لكنها لم تكن وحدها.
بجانبها شاب غريب، يضع يده على كتفها، وتعلو وجهه ابتسامةٌ غامضة.
كانت عينا ليلى في الصورة مليئتين بالخجل، لكن في قلبها شيء آخر.
رفع آدم عينيه إلى الرجل العجوز، وسأله:
"من هذا الشاب؟"
ابتسم العجوز، وقال بصوت عميق:
"هذه هي قصتك القادمة يا آدم.
وهذا هو مفتاحك لتعرف:
هل ستظل تراقبها من بعيد؟
أم أنك مستعدٌّ لتفتح قلبك وتكتشف من تكون ليلى حقًا… وما الذي تخفيه في قلبها؟"
ارتعش قلب آدم أكثر.
شعر أن الظلام في الغرفة لم يكن سوى مرآةٍ للغموض الذي يكتنف روحه.
وبينما كان المطر يهطل خارج النافذة، كان داخله يشتعل بعاصفةٍ أكبر.
لقد أصبح في قلب اللعبة.
وبدأ الفصل الأكثر إثارة في حياته.
الجزء الخامس
وقف آدم في تلك الغرفة التي تشبه متحفًا للأسرار.
ظلّ يحدق في صورة ليلى وهي تقف بجانب ذلك الشاب الغامض.
من يكون هذا الرجل؟
وما علاقته بها؟
وكيف يمكن لصورةٍ واحدة أن تربك كل ما كان يعتقده عن مشاعره نحوها؟
تنهّد الرجل العجوز وقال بنبرة مثقلة بالأسرار:
"آدم، سأخبرك الحقيقة التي خُدعتَ فيها طويلًا:
ذلك الشاب الذي يقف بجانبها… ليس سوى شقيقها."
ارتفع رأس آدم فجأة، وقد شحب وجهه دهشة:
"شقيقها؟!"
أومأ العجوز:
"أجل.
كان يرافقها أحيانًا في الجامعة ليحميها من المضايقات.
لكن الناس فهموا الأمور بشكل خاطئ… حتى أنت كنت من هؤلاء الناس.
أحيانًا، يا بني، ما نراه ليس سوى قناع.
وقلب ليلى… كان دائمًا ينتظر من يزيل ذلك القناع عنها."
اتسعت عينا آدم، شعر كأن جبلًا قد أزيح عن صدره.
كم مرة كان يراها مع ذلك الشاب ويظن أنها تحبه؟
كم مرة بنى جدارًا بينه وبينها دون أن يعرف الحقيقة؟
لكن بقي سؤال واحد يلسع قلبه:
"لماذا كانت ليلى دائمًا باردة تجاهي؟
لماذا لم تسمح لي بالاقتراب منها حتى بعد أن صارحتها؟"
ابتسم الرجل العجوز، ونظر إليه مليًّا:
"لأن ليلى أيضًا كانت تخاف.
كانت قد تعرّضت لخيانةٍ من قبل أحد أقربائها، فصارت تخشى أي علاقة جديدة.
لم يكن الأمر يخصّك وحدك، بل كان قلبها في حربٍ مع الماضي."
شعر آدم بأن قلبه يغلي بالأحاسيس.
أمسك بالظرف من جديد، وكأن الصورة تحولت في يديه إلى بوابةٍ نحو عالمٍ لم يفكر فيه من قبل.
هتف بصوتٍ متهدج:
"لكن… كيف أصل إليها الآن؟
كيف أجعلها تثق بي؟"
نهض الرجل العجوز، وضع يده على كتف آدم وقال:
"عليك أن تثبت لها أن حبك ليس نزوة، بل شجاعة.
أحيانًا، الحب يحتاج إلى تضحية، إلى خطوةٍ لم تكن مستعدًّا لها من قبل."
نظر آدم في عيني الرجل العجوز، فقرأ فيهما حكمةً لم يجدها في أي كتاب.
ثم قال العجوز وهو يهمّ بالخروج:
"ستجد ليلى غدًا في المقهى الذي تحبّ الجلوس فيه.
لا تتراجع هذه المرة.
اقترب منها، تحدث إليها، أخبرها أنك مستعدّ لأن تكون صديقها أولًا…
لعل قلبها يفتح بابه لك."
غادر العجوز، تاركًا آدم في مهبّ العاصفة.
جلس طويلًا، يفكر في كل شيء:
في خيبته، في ظنونه، في ألمه، وفي حلمه الذي كاد يموت قبل أن يولد.
لكن شيئًا في داخله اشتعل:
إنها فرصته الأخيرة، إما أن يكون شجاعًا ويخوض الرحلة، أو يبقى سجين صمته إلى الأبد.
في اليوم التالي، استجمع كل شجاعته.
ذهب إلى المقهى الذي اعتادت ليلى زيارته.
وجدها تجلس قرب النافذة، تراجع بعض الأوراق، يعلو وجهها تركيز غامض.
كانت في غاية الجمال، لكنها أيضًا بدت وكأنها تحمل ثقل العالم على كتفيها.
تردّد للحظة، لكن كلمات الرجل العجوز تردّدت في أذنه:
"أحيانًا، الحب يحتاج إلى خطوةٍ لم تكن مستعدًّا لها."
اقترب منها ببطء، أخذ نفسًا عميقًا.
"مرحبًا ليلى."
رفعت رأسها نحوه، ارتبكت قليلًا، ثم ابتسمت بخجل:
"آدم… مرحبًا."
جلس قبالتها.
لحظة صمتٍ مرّت بينهما.
ثم قال بصوتٍ خافت:
"أنا آسف لو أربكتك عندما فتحت قلبي فجأة.
لم أقصد إحراجك، لكنني لم أعد أتحمل الصمت أكثر."
أخفضت ليلى عينيها، وكأنها تفكر.
ثم رفعت نظرتها إليه، وقالت:
"آدم، أنت شاب رائع.
لكنني… كنت خائفة.
قلبي… مر بتجارب مؤلمة، وصار يخشى أي علاقة جديدة."
ابتسم لها بلطف، ومدّ يده نحو يدها المرتجفة، دون أن يلمسها:
"أنا لا أطلب منك شيئًا،
فقط… أن تمنحيني فرصة لأكون هنا،
كصديق أولًا،
كأخ،عاد آدم إلى شقته تلك الليلة، ورأسه مليء بالأسئلة والآمال.
كانت كلمات ليلى تدور في ذهنه:
"ربما… أحتاج إلى هذا أكثر مما توقعت."
تمنى لو يطرق باب قلبها أكثر، ليكتشف ما لم تبح به بعد.
لكن في منتصف الليل، وصله اتصال آخر من الرقم الغامض الذي اتصل به سابقًا.
تردّد للحظة، ثم ضغط زر الإجابة.
"آدم، كنتُ أعلم أنك ستنجح في الاقتراب من ليلى.
لكن الأمر لم ينتهِ بعد.
ما رأيك أن أقدّم لك شيئًا يغيّر كل شيء؟"
شعر آدم بالتوتر.
"ماذا تقصد؟"
جاءه صوتٌ غامض:
"ليلى ليست كما تظن.
هناك جانب من حياتها لم تعرفه، ولا تظن أنك مستعدٌ لمعرفته.
غدًا، في نفس المقهى الذي التقيتما فيه، ستجد هناك ظرفًا أسود على الطاولة.
فيه سرّ قد يقلب كل شيء.
احذر… أحيانًا، الحقيقة أخطر من الأكاذيب."
أُغلق الخط قبل أن يردّ.
جلس آدم في الظلام، تتسابق دقات قلبه.
هل ما زال هناك سرٌّ أكبر من ذلك الذي اكتشفه عن شقيقها؟
وهل هي ضحية أم شريكة في لعبة أكبر من كليهما؟
---
في الصباح، شعر أن العالم تغيّر.
ذهب إلى الجامعة، لكنه لم يستطع التركيز.
لم يكن يرى سوى وجه ليلى، وصوت الغامض الذي يطارده بأسئلته المربكة.
قرر أن يذهب إلى المقهى في الموعد المحدد.
وصل قبل الوقت بدقائق، اختار طاولة في الزاوية، وانتظر.
بعد لحظات، رأى نادلاً يضع ظرفًا أسود صغيرًا على الطاولة المقابلة له.
نظر حوله فلم يجد أحدًا يراقبه.
تردّد، لكن قلبه دفعه لالتقاط الظرف.
فتحه ببطء، ليجد فيه صورة قديمة بالأبيض والأسود.
كانت الصورة تُظهر ليلى وهي تقف في أحد الأحياء الشعبية، إلى جانب رجل غريب الملامح.
على ظهر الصورة، كُتبت كلمات بخطٍ مائل:
"ليس كل ما تراه في حياتها بريئًا."
ارتبك آدم.
من هذا الرجل في الصورة؟
وهل كانت ليلى تخفي عنه شيئًا؟
لكن قلبه رفض التصديق، فهو يعرف ليلى بطهرها وبراءتها.
أعاد النظر في الصورة مرات ومرات.
أحس أن هناك لغزًا أكبر، وأن أحدهم يحاول اللعب بمشاعره.
بينما هو شارد، سمع خطوات خفيفة تقترب منه.
رفع رأسه ليجد ليلى واقفة أمامه، تحمل كتابًا في يدها، وملامحها شاحبة قليلاً.
"آدم، لماذا أراك مرتبكًا اليوم؟"
تردّد للحظة، ثم قال وهو يحاول إخفاء توتره:
"هناك… شخص ما يعبث بي.
يحاول أن يجعلني أشكّ فيك."
اتسعت عيناها دهشة:
"فيَّ أنا؟!
لماذا؟"
أخرج الصورة ووضعها أمامها.
"ليلى، من هذا الرجل؟"
تسمّرت ليلى في مكانها، تجمّد وجهها للحظة، ثم قالت بصوتٍ خافت:
"آدم، هذه الصورة قديمة جدًا.
هذا الرجل… إنه أبي."
اتسعت عينا آدم دهشة:
"أبوكِ؟"
أومأت برأسها، ودمعة وحيدة تساقطت على وجنتها:
"لقد توفي قبل سنوات.
وكان… له ماضٍ صعب، ارتكب أخطاءً كبيرة.
لكنني لست مسؤولة عن ماضيه.
آدم…
هل ستسمح لأشباح الماضي أن تدمّر ما بيننا قبل أن يبدأ؟"
شعر آدم أن قلبه يخفق بقوة.
أمسك يدها برفق، وهمس:
"أنا لا يهمّني الماضي يا ليلى.
أنا أريدك أنتِ،
هنا… الآن."
ابتسمت بخجل، ومرّت لحظة من الصمت بينهما قبل أن تهمس:
"وأنا… أحتاج لهذا أيضًا."
لكن في تلك اللحظة، لمح آدم من النافذة ظلًا يراقبهما من بعيد.
شخصٌ مجهول يقف في زاوية الشارع، ينظر إليهما بتركيزٍ مخيف.
شعر بقشعريرةٍ في جسده.
من هذا الشخص؟
هل هو صاحب الظرف الأسود؟
وهل انتهت اللعبة أم بدأت للتو؟
---
وفي قلب الليل،
شعر آدم أن الحبّ لا يُختبر إلا وسط الظلال.
وأن عليه أن يكون أقوى من الرياح التي تحاول إطفاء شمعة قلبه.
فهذه ليست مجرد قصة حب،
بل لعبةٌ معقدة بين الماضي والحاضر…
بين الحقيقة والوهم…
بين قلبين يحاولان النجاة من كل شيء.
وهكذا…
تواصلت اللعبة،
وانفتح الباب لفصلٍ جديد من الحكاية.
كحارس لأحلامك.
وحينما تكونين مستعدة،
قد أكون أيضًا الرجل الذي يليق بقلبك."
ابتسمت ليلى، وبدا في عينيها بريقٌ خافت من الدموع.
"أنت لطيف يا آدم…
ربما… أحتاج إلى هذا أكثر مما توقعت."
ابتسم بدوره، شعر أن قلبه خفيفٌ أخيرًا.
هذه البداية التي كان يتمناها.
ربما لم يكن الحب هو القبلة الأولى، بل تلك المسافة الصغيرة التي اجتازها من الخوف إلى الصدق.
بينما كان المطر يتساقط في الخارج، شعر آدم أن شتاء قلبه يذوب أخيرًا، وأن الربيع على الأبواب.
وهكذا بدأت قصتهما،
ليس كعاشقين فقط،
بل كصديقين…
وعلى تلك الطاولة، كان أول خيطٍ يربط قلبين،
في حكايةٍ لم تنتهِ بعد.
عاد آدم إلى شقته تلك الليلة، ورأسه مليء بالأسئلة والآمال.
كانت كلمات ليلى تدور في ذهنه:
"ربما… أحتاج إلى هذا أكثر مما توقعت."
تمنى لو يطرق باب قلبها أكثر، ليكتشف ما لم تبح به بعد.
لكن في منتصف الليل، وصله اتصال آخر من الرقم الغامض الذي اتصل به سابقًا.
تردّد للحظة، ثم ضغط زر الإجابة.
"آدم، كنتُ أعلم أنك ستنجح في الاقتراب من ليلى.
لكن الأمر لم ينتهِ بعد.
ما رأيك أن أقدّم لك شيئًا يغيّر كل شيء؟"
شعر آدم بالتوتر.
"ماذا تقصد؟"
جاءه صوتٌ غامض:
"ليلى ليست كما تظن.
هناك جانب من حياتها لم تعرفه، ولا تظن أنك مستعدٌ لمعرفته.
غدًا، في نفس المقهى الذي التقيتما فيه، ستجد هناك ظرفًا أسود على الطاولة.
فيه سرّ قد يقلب كل شيء.
احذر… أحيانًا، الحقيقة أخطر من الأكاذيب."
أُغلق الخط قبل أن يردّ.
جلس آدم في الظلام، تتسابق دقات قلبه.
هل ما زال هناك سرٌّ أكبر من ذلك الذي اكتشفه عن شقيقها؟
وهل هي ضحية أم شريكة في لعبة أكبر من كليهما؟
---
في الصباح، شعر أن العالم تغيّر.
ذهب إلى الجامعة، لكنه لم يستطع التركيز.
لم يكن يرى سوى وجه ليلى، وصوت الغامض الذي يطارده بأسئلته المربكة.
قرر أن يذهب إلى المقهى في الموعد المحدد.
وصل قبل الوقت بدقائق، اختار طاولة في الزاوية، وانتظر.
بعد لحظات، رأى نادلاً يضع ظرفًا أسود صغيرًا على الطاولة المقابلة له.
نظر حوله فلم يجد أحدًا يراقبه.
تردّد، لكن قلبه دفعه لالتقاط الظرف.
فتحه ببطء، ليجد فيه صورة قديمة بالأبيض والأسود.
كانت الصورة تُظهر ليلى وهي تقف في أحد الأحياء الشعبية، إلى جانب رجل غريب الملامح.
على ظهر الصورة، كُتبت كلمات بخطٍ مائل:
"ليس كل ما تراه في حياتها بريئًا."
ارتبك آدم.
من هذا الرجل في الصورة؟
وهل كانت ليلى تخفي عنه شيئًا؟
لكن قلبه رفض التصديق، فهو يعرف ليلى بطهرها وبراءتها.
أعاد النظر في الصورة مرات ومرات.
أحس أن هناك لغزًا أكبر، وأن أحدهم يحاول اللعب بمشاعره.
---
بينما هو شارد، سمع خطوات خفيفة تقترب منه.
رفع رأسه ليجد ليلى واقفة أمامه، تحمل كتابًا في يدها، وملامحها شاحبة قليلاً.
"آدم، لماذا أراك مرتبكًا اليوم؟"
تردّد للحظة، ثم قال وهو يحاول إخفاء توتره:
"هناك… شخص ما يعبث بي.
يحاول أن يجعلني أشكّ فيك."
اتسعت عيناها دهشة:
"فيَّ أنا؟!
لماذا؟"
أخرج الصورة ووضعها أمامها.
"ليلى، من هذا الرجل؟"
تسمّرت ليلى في مكانها، تجمّد وجهها للحظة، ثم قالت بصوتٍ خافت:
"آدم، هذه الصورة قديمة جدًا.
هذا الرجل… إنه أبي."
اتسعت عينا آدم دهشة:
"أبوكِ؟"
أومأت برأسها، ودمعة وحيدة تساقطت على وجنتها:
"لقد توفي قبل سنوات.
وكان… له ماضٍ صعب، ارتكب أخطاءً كبيرة.
لكنني لست مسؤولة عن ماضيه.
آدم…
هل ستسمح لأشباح الماضي أن تدمّر ما بيننا قبل أن يبدأ؟"
شعر آدم أن قلبه يخفق بقوة.
أمسك يدها برفق، وهمس:
"أنا لا يهمّني الماضي يا ليلى.
أنا أريدك أنتِ،
هنا… الآن."
ابتسمت بخجل، ومرّت لحظة من الصمت بينهما قبل أن تهمس:
"وأنا… أحتاج لهذا أيضًا."
لكن في تلك اللحظة، لمح آدم من النافذة ظلًا يراقبهما من بعيد.
شخصٌ مجهول يقف في زاوية الشارع، ينظر إليهما بتركيزٍ مخيف.
شعر بقشعريرةٍ في جسده.
من هذا الشخص؟
هل هو صاحب الظرف الأسود؟
وهل انتهت اللعبة أم بدأت للتو؟
وفي قلب الليل،
شعر آدم أن الحبّ لا يُختبر إلا وسط الظلال.
وأن عليه أن يكون أقوى من الرياح التي تحاول إطفاء شمعة قلبه.
فهذه ليست مجرد قصة حب،
بل لعبةٌ معقدة بين الماضي والحاضر…
بين الحقيقة والوهم…
بين قلبين يحاولان النجاة من كل شيء.
وهكذا…
تواصلت اللعبة،
وانفتح الباب لفصلٍ جديد من الحكاية.
الجزء السادس والاخير
عاد آدم إلى شقته وهو يحاول ترتيب أفكاره المشتتة.
كان يحدّق في الصورة التي رأى فيها ليلى إلى جانب ذلك الرجل الغريب، قبل أن يعرف أنه والدها.
لكن ظلال ذلك المجهول الذي كان يراقبهما من خلف زجاج المقهى ما زالت تلاحقه كطيفٍ مظلم، يبعث في نفسه قلقًا لم يعرفه من قبل.
حاول أن يقنع نفسه بأن الأمر قد انتهى، وأنه فهم الحقيقة أخيرًا: ليلى لم تكن تخفي عنه سوى ذكريات أليمة، وهي لم تكن طرفًا في مؤامرة كما أوحى له الصوت المجهول.
لكن داخله ظلّ مضطربًا، كأن شيئًا ما لا يزال ناقصًا، كأن الحقيقة لم تنكشف بالكامل بعد.
لم يستطع النوم تلك الليلة.
كان يسمع صدى صوته في المقهى حين وعد ليلى بأن يكون لها صديقًا وحاميًا، وأيضًا يسمع صدى كلمات ذلك الغريب:
"ليس كل ما تراه في حياتها بريئًا."
تساءل في نفسه:
هل كان والدها مجرّد ذكرى عابرة أم أن للماضي أنيابًا أطول مما يظن؟
وهل سينتهي الأمر عند ذلك الظرف الأسود، أم أن هناك من يصرّ على قتله بالأسئلة التي لا يملك لها جوابًا؟
مرّت ساعات الليل ثقيلة.
وعند الفجر، قرر أن يراها ثانية، ليطمئن قلبه ويزيل تلك الظنون التي تلتف حوله مثل أفعى.
في اليوم التالي، عاد إلى المقهى، وجلس في الزاوية نفسها.
كان قلبه يخفق بقوة كلما تذكّر نظرة ليلى المليئة بالدموع في اليوم السابق.
لم يتأخر كثيرًا حتى رآها تدخل، ترتدي معطفًا رماديًا وشالًا يلفّ عنقها بخفة.
ابتسمت له ببراءة، فتبدّدت نصف مخاوفه، لكن الجزء الآخر منها ظلّ متربصًا.
اقتربت وجلست أمامه، وضعت حقيبتها على الطاولة، وقالت بصوتٍ هادئ:
"آدم… أنا سعيدة أنك عدت.
كنت أخشى أن تبتعد بعد كل ما حدث."
تأمل ملامحها الطفولية الممزوجة بشيء من النضج، شعر بدفء في صدره، وقال:
"أنا هنا.
ولن أذهب إلى أي مكان."
ثم تردّد قليلًا، وسألها:
"لكن… ذلك الشخص الذي كان يراقبنا أمس… من يكون؟"
تغيّر لون وجهها قليلًا، بدت وكأنها تفاجأت، ثم قالت:
"أي شخص تقصد؟"
شعر بالريبة، لكنها لم تدم طويلًا، إذ بدا أن الدهشة في عينيها حقيقية.
أجاب:
"كان هناك رجل يقف في زاوية الشارع، يراقبنا.
أحسست أنه ليس غريبًا على هذه اللعبة."
تنهّدت ليلى، وأطرقت رأسها للحظة قبل أن تقول:
"آدم…
هناك أشياء كثيرة في حياتي لم أخبرك بها بعد.
لا لأنني لا أثق بك، بل لأنني أخشى أن تؤذيك."
شعر قلبه ينقبض، فأمسك يدها برفق.
"أنا هنا لأساعدك، مهما كان الأمر."
رفعت عينيها إليه، وقد امتلأتا بالدموع، وقالت:
"أبي…
لم يكن مجرد رجل عادي يا آدم.
لقد كان يعمل في تجارة مشبوهة، وهناك أشخاص ما زالوا يلاحقونني أحيانًا ظنًا منهم أني أعرف شيئًا عن صفقاته.
أنا لا أعرف شيئًا، أقسم لك…
لكنهم يظنون العكس.
ربما ذلك الرجل الذي رأيته… هو أحدهم."
شعر آدم برعشةٍ في قلبه، كأن حبه تحوّل فجأة إلى ساحة معركة.
لكنه تمالك نفسه، وأحنى رأسه قليلًا، ثم قال:
"أنا هنا يا ليلى.
ولن أتركك وحدك في هذه الحرب.
حتى لو اضطررت لمواجهة كل أشباح ماضيك."
ترددت، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة، وكأنها تشكر القدر لأنه أرسل لها هذا القلب الصادق.
"آدم…
أحيانًا أشعر أن لقائي بك هو الشيء الوحيد الصادق الذي حدث لي منذ زمن طويل."
مدّ يده ومسح دمعتها، وهمس لها:
"إذن دعينا نمشي في هذا الطريق معًا.
يدًا بيد، حتى لو كان الطريق مظلمًا.
أنا هنا."
ابتسمت وسط دموعها، وكأنها رأت فيه الأمل الذي افتقدته طويلًا.
لكن وسط تلك اللحظة الدافئة، رنّ هاتف آدم فجأة برسالة قصيرة:
"الحب جميل يا آدم، لكنه لا يحميك من الحقيقة.
استعد للمفاجأة غدًا."
قرأها، وشعر بالدم يجمد في عروقه.
لم يخبر ليلى بمحتواها، لكنه أدرك أن الظلال ما زالت أطول من أن يبددها الحب وحده.
نظر إليها، وابتسم لها ليخفي خوفه.
كانت تبتسم له، لكنها لم تكن تعلم أن قصة قلبها قد بدأت للتو، وأن الأيام القادمة ستكشف لهما أسرارًا أكبر وأعمق مما تخيّلا.
وهكذا…
جلسا هناك، في مقهى صغير، بين فنجاني قهوة ونظرات مليئة بالتساؤلات،
وما بين قلبين لم يكتشفا بعد أن لعبة القدر لم تبدأ بعد.
كانت الشمس تشرق بخجلٍ في سماء صافية حين قرر آدم مواجهة كل شيء.
لم يعد بإمكانه الهروب من الأسئلة التي تحيط به: من الرجل الغامض الذي يلاحقهما؟ وهل هناك من يريد تمزيق قلبه الذي بدأ ينبض بحب ليلى؟
أخذ نفسًا عميقًا واتجه إلى نفس المقهى الذي صار شاهدًا على كل لحظاتهما.
جلس في الزاوية المعتادة، وانتظر أن تأتي ليلى، لكن قلبه لم يهدأ.
كلما تذكّر الرسالة الأخيرة، شعر أن النهاية تقترب… أو ربما البداية الحقيقية.
بعد دقائق، دخلت ليلى، يعلو وجهها القلق.
"آدم…
كنتُ خائفة عليك.
هل حدث شيء جديد؟"
ابتسم لها بحنانٍ رغم كل شيء، وأجابها:
"ليلى…
لا أريد أن أعيش في الظل بعد الآن.
نحن معًا في هذه اللعبة.
وأنا… لن أدع أحدًا يفرّقنا."
همست وهي تضم يديها بتوتر:
"لكني خائفة عليك، هؤلاء الذين يطاردوننا لا يرحمون."
ردّ وهو يلتقط أنفاسه:
"إذن فلننهي هذه اللعبة اليوم."
وبينما كانا يتحدثان، دخل رجل غريب إلى المقهى، يرتدي قبعة داكنة ونظارة شمسية أخفت ملامحه.
اقترب منهما بخطى واثقة، ووضع ظرفًا بنيًا صغيرًا على الطاولة.
قال بصوتٍ أجشّ:
"آن الأوان أن تعرف الحقيقة."
ثم ابتعد دون أن ينتظر ردّهما.
تبادل آدم وليلى نظرة متوترة.
مدّ آدم يده، فتح الظرف ببطء، ليجد بداخله تقريرًا مفصلاً.
قرأ الكلمات بصوتٍ خافت:
"ليلى بريئة.
كل شيء كان خطة من أعداء والدها لتوريطها واستغلالها كورقة ضغط."
شهقت ليلى وهي تغطي فمها بيدها، وامتلأت عيناها بالدموع.
"هذا يعني… أنني بريئة فعلًا… يا إلهي!"
ضمّها آدم إليه بقوة، كأنه يحتضن روحها، وهمس في أذنها:
"كنت أعرف ذلك دائمًا.
كنت أعرف أن قلبك أنقى من كل الأكاذيب."
بكت في حضنه، والدموع تختلط بابتسامتها.
"آدم… شكرًا لأنك كنت هنا.
لو كنتُ وحدي، لكنتُ ضائعة."
نظر إليها بعينين مليئتين بالحب واليقين:
"ليلى…
هذه قصتنا.
والآن، يمكننا أن نبدأ من جديد."
رفعت وجهها إليه، وقالت بابتسامة امتزجت فيها الدموع والفرح:
"إذن… أنت لا تزال هنا؟"
ضحك آدم، وهو يمسح دموعها بأصابعه:
"أنا هنا…
ودائمًا سأكون."
خرج الاثنان من المقهى معًا، وقد امتلأت خطواتهما بالأمل واليقين.
كانت شمس الأصيل تداعب وجهيهما، وكأنها تبارك لهما بداية جديدة،
بعيدًا عن الظلال،
وفي قلب الحقيقة…
حيث لا مكان إلا للنور والحب.
وهكذا، انتهت لعبة القدر،
وبدأت حكايتهما…
حكاية قلبين اختارا الحب…
رغم كل شيء.
النهاية.