في أرضٍ لا تُقاس فيها الثروات بالذهب، بل بقطرةٍ من علاجٍ نادر، وُلد ڤينوم
لم يكن له أبٌ معروف، ولا أمٌ تنتظره في المساء، فقط قبو بارد تحت أنقاض صيدلية محترقة، ورائحة لا تغادر أنفه منذ الطفولة: رائحة التحلل البشري ممزوجة بالورد الأسود.
كان الناس يخشونه. ليس لأنه شرير، بل لأنه مختلف
في عمر الخامسة، كان يشخّص أمراض الجيران دون أن يراهم.
في العاشرة، أنقذ شيخ القرية من سمٍّ لا علاج له.
في الثالثة عشرة، اختفى لمدة سبعة أيام، ثم عاد حاملاً دواءً يعيد الذاكرة للجنود الممسوخين في الحرب… مقابل أن ينسوا أولادهم.
أما الآن، في عمر التاسعة عشرة، فقد أصبح اسمه يُهمَس في أروقة القصور، وفي دهاليز تجار السوق السوداء، وعلى شفاه من لا يملكون شيئًا سوى الأمل.
كان قبو الصيدلية عالمًا خاصًا به.
الجدران مليئة بأرفف خشبية غير مستقرة، تعلوها زجاجات بألوان لا توجد في قوس قزح.
هناك زجاجة بداخلها ظلّ يتلوى، وأخرى تهمس إذا اقتربت منها.
وكانت هناك مرآة مغطاة بقماش أسود، لا يعرف أحدٌ سبب إخفائها… سوى ڤينوم.
كان يعمل على عقار جديد تلك الليلة — تركيبة ضد الحزن المتحول.
الحزن المتحول مرض نادر، لا يقتل الجسد، بل يُبدّل الشخصية بالكامل.
رأى ضوء النار ينعكس في البوتقة، شمّ الأبخرة، ثم قطّر نقطةً أخيرة من سائل أزرق داكن داخل قارورة صغيرة.
رفعها أمام عينيه وقال لنفسه:
"حزنك سيتحوّل إلى صمت... ثم إلى سلام."
كانت الساعة تقارب منتصف الليل حين سمع الخطوات.
خفيفة، مترددة، لكنها ثابتة.
فتح الباب الخشبي القديم ليجد فتاةً في العشرين تقريبًا، ترتدي رداءً رماديًا ممزقًا عند الكتف، وعينيها تلمعان ببرودة زجاجية.
قالت بهدوء:
"أبحث عن ڤينوم."
ردّ: "غريب. الكللابب عادةً تنبح عند الباب أولًا."
قالت دون ابتسامة: "الكللابب تخاف مني."
ردّ بهمس: "وهذا أسوأ…"
دخلت دون دعوة. نظرت حولها كمن يعرف المكان مسبقًا.
"هل يمكنك اختراع دواء… لمرض لا يُشَمّ؟"
توقف فجأة، حدّق فيها.
"كل مرض له رائحة. حتى الموت له عطر… ما اسمك؟"
"ليس لي اسم بعد."
اقترب منها، كأن أنفه يبحث في الهواء عن أثر.
"أنتِ… بلا رائحة."عندما فحص نبضها، لم يكن نابضًا.
عندما فحص عينيها، وجد سوادًا بلا حدود.
عندما وضع قطرة من دمها على ورقة تحليل، احترقت الورقة فورًا.
قال لها بصوت خافت:
"أنتِ لستِ مريضة."
قالت بهدوء:
"بل أنا المرض."
ابتعد خطوة للخلف، لكنه لم يرتعب. على العكس، بدا مبهورًا.
"كم مضى على ولادتك؟"
"أنا لا أولد، أنا أُستدعى."
"من استدعاكِ؟"
"ذاكرة هذا العالم… التي بدأت تتعفن."
في تلك اللحظة، اهتزّت الأرض تحت قدميه.
سقطت إحدى الزجاجات وانفجرت، وخرج منها دخان رمادي كثيف.
اقتربت الفتاة أكثر وهمست:
"أريدك أن تصنع دواءً… لي أنا. دواءً يُنسيني نفسي."
قال: "هذا أخطر طلب سمعته."
قالت: "وأنت أخطر صانع دواء حيّ."
فكر للحظة، ثم قال:
"عليكِ أن تعرفي شيئًا…
النسيان ليس دواءً.
إنه موت صغير."
ابتسمت أخيرًا، وقالت:
"إذن… دعني أموت قليلاً."
أخذ ڤينوم قارورة جديدة. لأول مرة، لم يعرف ما سيضع بداخلها.
هذه الفتاة لم تكن مريضة… لكنها ستجعل العالم بأكمله بحاجة إلى علاج.
وفي الظل، على الحائط خلفه،
بدأت مرايا القبو تُظهر وجوهًا… وجوهًا يعرفها… لكنها ماتت منذ سنوات.
الجزء الثاني
في صباح اليوم التالي، لم يكن قبو الصيدلية كما كان.
رائحة الدخان الكثيف لا تزال تلتصق بالجدران، والزجاجات المتناثرة تشبه جرحًا مفتوحًا في قلب المكان.
لكن أكثر ما شغل ذهن ڤينوم هو ذلك السؤال الذي لم يفارق فكره:
"كيف تصنع دواءً لشيء لا وجود له؟"
بعد ساعات قليلة من اللقاء الغريب، جلس ڤينوم في ركنه المعتاد وسط الفوضى.
حاول أن يكرر رائحة الفتاة، لكنه لم يستطع تذكر شيء سوى فراغٍ قاتل.
فتح دفاتره القديمة، تلك التي كان يكتب فيها كل وصفة وكل معادلة، لكنه وجد صفحات بيضاء.
كل ذكريات اختراعاته بدأت تختفي، كأنها تُمحى من ذاكرته.
تسلل إليه شعور غريب: أن الفتاة لم تأتِ وحدها، بل حملت معها لعنة تُسرق الذكريات.
حين خرج من القبو ليستنشق الهواء، وجد ظرفًا قديمًا موضوعة على الباب.
فتح الظرف، فوجد ورقة مكتوبة بحبر أحمر:
"كلما نسيت، اقتربت النهاية. لا تسمح للنسيان أن يحكم."
لم يكن هناك توقيع، ولا أي مؤشر عن مرسلها.
عاد إلى داخله محملاً بمزيج من الغضب والخوف.
فكر: هل هي تحذير؟
هل هي رسالة من من؟
ومن ينسى إذا لم يكن هو نفسه أول من بدأ ينسى؟
قرر أن يفتح المرآة المغطاة بالقماش الأسود.
رفع الغطاء ببطء، ليجد داخلها لا صورة له، بل مشهدًا متحركًا… ذكريات لا تخصه، حياة شخص غريب، مدينة تُحترق، وصوت فتاة يردد:
"أنا البداية والنهاية، ذاكرتي فيك، ونسيانك بدايتي."وسط هذا المشهد، قرر ڤينوم أن يخرج إلى المدينة، تلك المدينة التي لطالما ظلت مخفية عن أعين النبلاء، مكان الفقراء والمرضى.
هناك حيث تُباع الأرواح مقابل جرعة دواء، حيث تنمو الأوبئة وتنتشر كالنار في الهشيم.
في الطريق، صادف رجالًا يرتدون عباءات سوداء، ينتمون إلى "نقابة العلاج" الحاكمة، وهم يراقبونه بعينين تلمعان بالكراهية والريبة.
همس أحدهم:
"ڤينوم… لقد جئت لتبدأ العد التنازلي."
بينما كان يمر عبر سوق الأدوية السوداء، لمح في ظلمة أحد الأزقة ظلاً يتحرك.
صوت خافت نادى: "ڤينوم!"
التفت ليجد الفتاة ذات العيون الزجاجية تقف خلفه.
قالت بهدوء:
"هل بدأت تشعر بالضياع؟"
رد بصوت ثابت:
"لماذا أنت هنا؟ ولماذا كل هذا الغموض؟"
ابتسمت وقالت:
"لأنك الوحيد القادر على إنقاذنا... أو القضاء علينا."غادر ڤينوم السوق وهو يدرك أن هذه الفتاة الغامضة ليست مجرد مرض، بل رسالة من عالم مهدد بالخراب.
مع كل خطوة يخطوها، يختفي جزء من ذاكرته، ومع كل ذكرى تُمحى، تقترب نذر نهاية لا مفر منها.
الجزء الثالث
الضوء الخافت من مصابيح الزيت تسلل عبر الضباب، يُلقي بظلال راقصة على جدران السوق العتيق. أصوات الباعة خفتت كلما تعمّق ڤينوم في الأزقة. رغم الزحام، شعر أنه معزول. وكأن المدينة تعرفه لكنها لا ترحب به.
أوقفه صوت ناعم، لا يشبه الضجيج المعتاد.
– "هل تبحث عن شيء… أم هارب من شيء؟"
استدار ببطء. كانت هي.
نفس الفتاة التي ظهرت بالأمس… أو ربما كانت حلمًا لم يكتمل.
شعر برعشة صغيرة، لم تكن من البرد.
قال مترددًا:
– "أنا… أبحث عن مادة. نادرة. شيء يساعدني في تجارب… عقار جديد."
ابتسمت بخفة، كأنها تعلم ما لم يقله.
– "تجاربك لن تنقذك. لا أحد يُشفى بالدواء وحده."
ساد الصمت لحظة. كان ذهن ڤينوم يعج بأسئلة لا يعرف من أين يبدأ.
لماذا تتحدث وكأنها تعرفه؟ من هي؟
ولماذا عيناها تشبهان… شيئًا منسيًا؟ شيء من الطفولة، من الألم؟
اقتربت خطوة، صوت نعليها على الأرض الصخرية بالكاد يُسمع.
قالت بهدوء:
– "رائحتك... تشبه الدخان والنسيان. كلاهما لا يختفي بسهولة."
تراجع خطوة، وقد انقبض صدره.
– "من أنتِ؟"
أجابت بصوت بالكاد يُسمع:
– "اسمي ليس مهمًا الآن... لكن إن أردت أن تعرف، تعال إلى البرج القديم بعد الغروب. وحدك."
ثم استدارت واختفت بين الزحام. كأنها لم تكن.
جلس ڤينوم تلك الليلة في صيدليته الصغيرة، وسط القوارير وألسنة اللهب الزرقاء.
نظر إلى مرآته المشروخة، ثم إلى دفتر ملاحظاته.
كتب:
أغلق الدفتر بعنف. الهدوء لم يعد ما يبحث عنه.
راح يُفكر:
هل أعقابي تهرب مني؟ هل الأدوية مجرد أقنعة؟ من أنا بدونها؟
مع الغروب، كان يقف أمام بوابة البرج المهجور.
الهواء بارد، والسماء كأنها تراقبه.
لكنه لم يتراجع.
دفع الباب الخشبي، فصدر صرير طويل كأن الزمن نفسه يئن.
وسمع صوتها من الداخل:
– "كنت أعلم أنك ستأتي يا ڤينوم... لكن السؤال الحقيقي: هل أنت مستعد لما ستراه؟"
خطوته داخل البرج كانت كمن يخطو إلى ذاكرة غريبة.
الجدران، رغم الصمت، كانت تتكلم. كل حجر يحمل نقشًا مطموسًا، كأن أحدهم حاول محو التاريخ… دون نجاح.
الهواء في الداخل أكثر برودة. رطوبة تشبه أنفاس الموتى.
وقف ڤينوم مترددًا، لكن صوتها أتى من الطابق العلوي، واضحًا رغم بعده:
– "إلى الأعلى يا ڤينوم. الأسئلة لا تُجاب عند العتبة."
تقدم بحذر، كل درجة في السلم الخشبي تُصدر أنينًا، وكأنها تشتكي الزمن.
في الطابق الثالث، وجدها واقفة أمام مرآة طويلة، مغطاة جزئيًا بقطعة قماش داكنة.
قالت دون أن تلتفت:
– "الدواء الذي تبحث عنه... لن تجده في زجاجاتك. بل في شروخك."
– "ماذا تقصدين؟" سألها، وصوته محمّل بالقلق.
التفتت نحوه، عيناها بلون الليل، لكن فيهما شيء يتكسّر.
قالت بصوت منخفض:
– "كل عقار تخترعه… كل وصفة تكتبها… كانت محاولة لعلاج شيء فيك، لا في الناس."
تقدم خطوة، وأجاب:
– "أنا أساعد الآخرين. أُعطيهم أملًا."
– "بل تُعطيهم ما تتمنّى أن يُعطى لك."
ساد الصمت.
رفعت القماش عن المرآة… وظهر انعكاس ڤينوم، لكن فيه شيء غريب.
لم تكن تلك ملامحه تمامًا.
عيناه في المرآة بدت أقدم، أضعف، ومليئة بخيوط سوداء تمتد من أطرافها… كأنها جذور مرضٍ لم يُكتشف بعد.
– "ما هذا؟! ما الذي أراه؟"
قالت:
– "هذا ما يراه من في الداخل. الذاكرة المحظورة… التي تحاول أدوية النسيان أن تطمسها."
اقترب أكثر. قلبه ينبض بقوة. في المرآة، رأى مشاهد… ومضات.
*** في غرفة باردة.
باب مغلق.
صرخات مكتومة.
زجاجة دواء… وكلمة "اختبار" على الملصق.
تراجع بقوة، يلتقط أنفاسه.
– "هذا كذب! أنا لا أتذكر شيئًا من هذا!"
همست:
– "بل تتذكر… أنت فقط صنعت لنفسك دواءً ليمحو ذلك."جلس على الأرض، العرق يغطي جبينه رغم البرد.
صوت في داخله تمتم:
اتسعت عيناه.
– "ماذا تقصدين؟"
لكنها لم تُجِب.
بل انطفأت أنوار البرج فجأة، وغمر الظلام كل شيء.
وصوتها جاء هذه المرة من مكان غير مرئي:
– "المرحلة التالية... ليست في هذا العالم."
لم يكن له أبٌ معروف، ولا أمٌ تنتظره في المساء، فقط قبو بارد تحت أنقاض صيدلية محترقة، ورائحة لا تغادر أنفه منذ الطفولة: رائحة التحلل البشري ممزوجة بالورد الأسود.
كان الناس يخشونه. ليس لأنه شرير، بل لأنه مختلف
في عمر الخامسة، كان يشخّص أمراض الجيران دون أن يراهم.
في العاشرة، أنقذ شيخ القرية من سمٍّ لا علاج له.
في الثالثة عشرة، اختفى لمدة سبعة أيام، ثم عاد حاملاً دواءً يعيد الذاكرة للجنود الممسوخين في الحرب… مقابل أن ينسوا أولادهم.
أما الآن، في عمر التاسعة عشرة، فقد أصبح اسمه يُهمَس في أروقة القصور، وفي دهاليز تجار السوق السوداء، وعلى شفاه من لا يملكون شيئًا سوى الأمل.
كان قبو الصيدلية عالمًا خاصًا به.
الجدران مليئة بأرفف خشبية غير مستقرة، تعلوها زجاجات بألوان لا توجد في قوس قزح.
هناك زجاجة بداخلها ظلّ يتلوى، وأخرى تهمس إذا اقتربت منها.
وكانت هناك مرآة مغطاة بقماش أسود، لا يعرف أحدٌ سبب إخفائها… سوى ڤينوم.
كان يعمل على عقار جديد تلك الليلة — تركيبة ضد الحزن المتحول.
الحزن المتحول مرض نادر، لا يقتل الجسد، بل يُبدّل الشخصية بالكامل.
رأى ضوء النار ينعكس في البوتقة، شمّ الأبخرة، ثم قطّر نقطةً أخيرة من سائل أزرق داكن داخل قارورة صغيرة.
رفعها أمام عينيه وقال لنفسه:
"حزنك سيتحوّل إلى صمت... ثم إلى سلام."
كانت الساعة تقارب منتصف الليل حين سمع الخطوات.
خفيفة، مترددة، لكنها ثابتة.
فتح الباب الخشبي القديم ليجد فتاةً في العشرين تقريبًا، ترتدي رداءً رماديًا ممزقًا عند الكتف، وعينيها تلمعان ببرودة زجاجية.
قالت بهدوء:
"أبحث عن ڤينوم."
ردّ: "غريب. الكللابب عادةً تنبح عند الباب أولًا."
قالت دون ابتسامة: "الكللابب تخاف مني."
ردّ بهمس: "وهذا أسوأ…"
دخلت دون دعوة. نظرت حولها كمن يعرف المكان مسبقًا.
"هل يمكنك اختراع دواء… لمرض لا يُشَمّ؟"
توقف فجأة، حدّق فيها.
"كل مرض له رائحة. حتى الموت له عطر… ما اسمك؟"
"ليس لي اسم بعد."
اقترب منها، كأن أنفه يبحث في الهواء عن أثر.
"أنتِ… بلا رائحة."عندما فحص نبضها، لم يكن نابضًا.
عندما فحص عينيها، وجد سوادًا بلا حدود.
عندما وضع قطرة من دمها على ورقة تحليل، احترقت الورقة فورًا.
قال لها بصوت خافت:
"أنتِ لستِ مريضة."
قالت بهدوء:
"بل أنا المرض."
ابتعد خطوة للخلف، لكنه لم يرتعب. على العكس، بدا مبهورًا.
"كم مضى على ولادتك؟"
"أنا لا أولد، أنا أُستدعى."
"من استدعاكِ؟"
"ذاكرة هذا العالم… التي بدأت تتعفن."
في تلك اللحظة، اهتزّت الأرض تحت قدميه.
سقطت إحدى الزجاجات وانفجرت، وخرج منها دخان رمادي كثيف.
اقتربت الفتاة أكثر وهمست:
"أريدك أن تصنع دواءً… لي أنا. دواءً يُنسيني نفسي."
قال: "هذا أخطر طلب سمعته."
قالت: "وأنت أخطر صانع دواء حيّ."
فكر للحظة، ثم قال:
"عليكِ أن تعرفي شيئًا…
النسيان ليس دواءً.
إنه موت صغير."
ابتسمت أخيرًا، وقالت:
"إذن… دعني أموت قليلاً."
أخذ ڤينوم قارورة جديدة. لأول مرة، لم يعرف ما سيضع بداخلها.
هذه الفتاة لم تكن مريضة… لكنها ستجعل العالم بأكمله بحاجة إلى علاج.
وفي الظل، على الحائط خلفه،
بدأت مرايا القبو تُظهر وجوهًا… وجوهًا يعرفها… لكنها ماتت منذ سنوات.
الجزء الثاني
في صباح اليوم التالي، لم يكن قبو الصيدلية كما كان.
رائحة الدخان الكثيف لا تزال تلتصق بالجدران، والزجاجات المتناثرة تشبه جرحًا مفتوحًا في قلب المكان.
لكن أكثر ما شغل ذهن ڤينوم هو ذلك السؤال الذي لم يفارق فكره:
"كيف تصنع دواءً لشيء لا وجود له؟"
بعد ساعات قليلة من اللقاء الغريب، جلس ڤينوم في ركنه المعتاد وسط الفوضى.
حاول أن يكرر رائحة الفتاة، لكنه لم يستطع تذكر شيء سوى فراغٍ قاتل.
فتح دفاتره القديمة، تلك التي كان يكتب فيها كل وصفة وكل معادلة، لكنه وجد صفحات بيضاء.
كل ذكريات اختراعاته بدأت تختفي، كأنها تُمحى من ذاكرته.
تسلل إليه شعور غريب: أن الفتاة لم تأتِ وحدها، بل حملت معها لعنة تُسرق الذكريات.
حين خرج من القبو ليستنشق الهواء، وجد ظرفًا قديمًا موضوعة على الباب.
فتح الظرف، فوجد ورقة مكتوبة بحبر أحمر:
"كلما نسيت، اقتربت النهاية. لا تسمح للنسيان أن يحكم."
لم يكن هناك توقيع، ولا أي مؤشر عن مرسلها.
عاد إلى داخله محملاً بمزيج من الغضب والخوف.
فكر: هل هي تحذير؟
هل هي رسالة من من؟
ومن ينسى إذا لم يكن هو نفسه أول من بدأ ينسى؟
قرر أن يفتح المرآة المغطاة بالقماش الأسود.
رفع الغطاء ببطء، ليجد داخلها لا صورة له، بل مشهدًا متحركًا… ذكريات لا تخصه، حياة شخص غريب، مدينة تُحترق، وصوت فتاة يردد:
"أنا البداية والنهاية، ذاكرتي فيك، ونسيانك بدايتي."وسط هذا المشهد، قرر ڤينوم أن يخرج إلى المدينة، تلك المدينة التي لطالما ظلت مخفية عن أعين النبلاء، مكان الفقراء والمرضى.
هناك حيث تُباع الأرواح مقابل جرعة دواء، حيث تنمو الأوبئة وتنتشر كالنار في الهشيم.
في الطريق، صادف رجالًا يرتدون عباءات سوداء، ينتمون إلى "نقابة العلاج" الحاكمة، وهم يراقبونه بعينين تلمعان بالكراهية والريبة.
همس أحدهم:
"ڤينوم… لقد جئت لتبدأ العد التنازلي."
بينما كان يمر عبر سوق الأدوية السوداء، لمح في ظلمة أحد الأزقة ظلاً يتحرك.
صوت خافت نادى: "ڤينوم!"
التفت ليجد الفتاة ذات العيون الزجاجية تقف خلفه.
قالت بهدوء:
"هل بدأت تشعر بالضياع؟"
رد بصوت ثابت:
"لماذا أنت هنا؟ ولماذا كل هذا الغموض؟"
ابتسمت وقالت:
"لأنك الوحيد القادر على إنقاذنا... أو القضاء علينا."غادر ڤينوم السوق وهو يدرك أن هذه الفتاة الغامضة ليست مجرد مرض، بل رسالة من عالم مهدد بالخراب.
مع كل خطوة يخطوها، يختفي جزء من ذاكرته، ومع كل ذكرى تُمحى، تقترب نذر نهاية لا مفر منها.
الجزء الثالث
الضوء الخافت من مصابيح الزيت تسلل عبر الضباب، يُلقي بظلال راقصة على جدران السوق العتيق. أصوات الباعة خفتت كلما تعمّق ڤينوم في الأزقة. رغم الزحام، شعر أنه معزول. وكأن المدينة تعرفه لكنها لا ترحب به.
أوقفه صوت ناعم، لا يشبه الضجيج المعتاد.
– "هل تبحث عن شيء… أم هارب من شيء؟"
استدار ببطء. كانت هي.
نفس الفتاة التي ظهرت بالأمس… أو ربما كانت حلمًا لم يكتمل.
شعر برعشة صغيرة، لم تكن من البرد.
قال مترددًا:
– "أنا… أبحث عن مادة. نادرة. شيء يساعدني في تجارب… عقار جديد."
ابتسمت بخفة، كأنها تعلم ما لم يقله.
– "تجاربك لن تنقذك. لا أحد يُشفى بالدواء وحده."
ساد الصمت لحظة. كان ذهن ڤينوم يعج بأسئلة لا يعرف من أين يبدأ.
لماذا تتحدث وكأنها تعرفه؟ من هي؟
ولماذا عيناها تشبهان… شيئًا منسيًا؟ شيء من الطفولة، من الألم؟
اقتربت خطوة، صوت نعليها على الأرض الصخرية بالكاد يُسمع.
قالت بهدوء:
– "رائحتك... تشبه الدخان والنسيان. كلاهما لا يختفي بسهولة."
تراجع خطوة، وقد انقبض صدره.
– "من أنتِ؟"
أجابت بصوت بالكاد يُسمع:
– "اسمي ليس مهمًا الآن... لكن إن أردت أن تعرف، تعال إلى البرج القديم بعد الغروب. وحدك."
ثم استدارت واختفت بين الزحام. كأنها لم تكن.
جلس ڤينوم تلك الليلة في صيدليته الصغيرة، وسط القوارير وألسنة اللهب الزرقاء.
نظر إلى مرآته المشروخة، ثم إلى دفتر ملاحظاته.
كتب:
يُبطئ تدفق الذكريات. يمنح الهدوء، لكن... ماذا إن لم أرد الهدوء؟""تركيبة رقم 113 — النسيان المؤقت
أغلق الدفتر بعنف. الهدوء لم يعد ما يبحث عنه.
راح يُفكر:
هل أعقابي تهرب مني؟ هل الأدوية مجرد أقنعة؟ من أنا بدونها؟
مع الغروب، كان يقف أمام بوابة البرج المهجور.
الهواء بارد، والسماء كأنها تراقبه.
لكنه لم يتراجع.
دفع الباب الخشبي، فصدر صرير طويل كأن الزمن نفسه يئن.
وسمع صوتها من الداخل:
– "كنت أعلم أنك ستأتي يا ڤينوم... لكن السؤال الحقيقي: هل أنت مستعد لما ستراه؟"
خطوته داخل البرج كانت كمن يخطو إلى ذاكرة غريبة.
الجدران، رغم الصمت، كانت تتكلم. كل حجر يحمل نقشًا مطموسًا، كأن أحدهم حاول محو التاريخ… دون نجاح.
الهواء في الداخل أكثر برودة. رطوبة تشبه أنفاس الموتى.
وقف ڤينوم مترددًا، لكن صوتها أتى من الطابق العلوي، واضحًا رغم بعده:
– "إلى الأعلى يا ڤينوم. الأسئلة لا تُجاب عند العتبة."
تقدم بحذر، كل درجة في السلم الخشبي تُصدر أنينًا، وكأنها تشتكي الزمن.
في الطابق الثالث، وجدها واقفة أمام مرآة طويلة، مغطاة جزئيًا بقطعة قماش داكنة.
قالت دون أن تلتفت:
– "الدواء الذي تبحث عنه... لن تجده في زجاجاتك. بل في شروخك."
– "ماذا تقصدين؟" سألها، وصوته محمّل بالقلق.
التفتت نحوه، عيناها بلون الليل، لكن فيهما شيء يتكسّر.
قالت بصوت منخفض:
– "كل عقار تخترعه… كل وصفة تكتبها… كانت محاولة لعلاج شيء فيك، لا في الناس."
تقدم خطوة، وأجاب:
– "أنا أساعد الآخرين. أُعطيهم أملًا."
– "بل تُعطيهم ما تتمنّى أن يُعطى لك."
ساد الصمت.
رفعت القماش عن المرآة… وظهر انعكاس ڤينوم، لكن فيه شيء غريب.
لم تكن تلك ملامحه تمامًا.
عيناه في المرآة بدت أقدم، أضعف، ومليئة بخيوط سوداء تمتد من أطرافها… كأنها جذور مرضٍ لم يُكتشف بعد.
– "ما هذا؟! ما الذي أراه؟"
قالت:
– "هذا ما يراه من في الداخل. الذاكرة المحظورة… التي تحاول أدوية النسيان أن تطمسها."
اقترب أكثر. قلبه ينبض بقوة. في المرآة، رأى مشاهد… ومضات.
*** في غرفة باردة.
باب مغلق.
صرخات مكتومة.
زجاجة دواء… وكلمة "اختبار" على الملصق.
تراجع بقوة، يلتقط أنفاسه.
– "هذا كذب! أنا لا أتذكر شيئًا من هذا!"
همست:
– "بل تتذكر… أنت فقط صنعت لنفسك دواءً ليمحو ذلك."جلس على الأرض، العرق يغطي جبينه رغم البرد.
صوت في داخله تمتم:
– "أنت مميز يا ڤينوم، ليس لأنك تصنع العقاقير… بل لأنك كنت أول من نجا منها.""إن لم تُواجه الماضي… لن تصنع دواء المستقبل."قالت الفتاة بهدوء:
اتسعت عيناه.
– "ماذا تقصدين؟"
لكنها لم تُجِب.
بل انطفأت أنوار البرج فجأة، وغمر الظلام كل شيء.
وصوتها جاء هذه المرة من مكان غير مرئي:
– "المرحلة التالية... ليست في هذا العالم."