L romance
ميلفاوي ذهبي
ميلفاوي واكل الجو
ميلفاوي حكيم
عضو
صقر العام
ميلفاوي حريف سكس
شاعر ميلفات
ميلفاوي مثقف
ميلفاوي علي قديمو
ميلفاوي دمه خفيف
ميلفاوي خواطري
ميلفاوي فنان
باقةُ الوَردِ حصري لمنتدى ميلفات
في يومٍ ربيعيٍّ جميل ، استيقظتْ ليلى من نَومها ، على غيرِ عادتِها ، فتحتْ نافذةَ غُرفتها وبدأتْ تستشرفُ الطّبيعةَ الجميلةَ الوادعةَ ، أصواتٌ مُتداخلة حيثُ الهواءُ العليلُ وأصوات طيور الصّباح الّتي تتغنّى بأصواتها الجميلة ، مع هذه الأجواء الوادعة الجميلة تُخرِجُ ليلى تنهيدةً عميقةً حيث عاد الحزنُ ليتسلّل إلى ذاكرتها المتوهجة ألما ، مما أصابها بنوبة بكاء شديدة ... فمن هي ليلى وما قصّتها ؟
ليلى ذلك الاسم الجميل ، الذي دللها به ذلك الشّابُّ الوسيم الذي تعرفتْ عليه صُدفة في محلٍ لبيعِ الأدواتِ المنزلية ، عندما كانت بمدينة الأحلام في ذلك الوقت ، حيث تعيش ليلى في بيت ريفي جميل مع أمها سامية وأختيها سلوى ونجوى ، توفي والدها قبل عشر سنوات بسبب إصابته بمرض السّرطان ذلك المرض الخبيث الذي أقض مضجعه ومضجع العائلة التي كانت تتمنى شفاءه ، مما جعله يتنقل من عيادة لأخرى ، ومِن مشفى لِمشفى آخر ، حتى أوصله الحال في دهاليز القبر ، حيث أبعده عن أحضان زوجته ، وبناته الثلاث ، ليلى هي أكبر أخواتها سنّاً ، والتي كانت تتخذُ من الطّابق العلوي غرفة تسكنها لأنها تطل على الحديقة الجميلة ذات الأشجار العالية ، والتي تُخفي بين أوراقها الكثيفة الكثير من الأعشاش لبعض الطيور ، تلك الأعشاش التي فتحت شهيتها أن يكون لها مثل بقية البنات ، مع حبيبها رائد ، عش الزّوجية الوادع الجميل .
اقتربت ليلى من الخامسة والعشرين سنة من عمرها ، لم تتزوج بسبب عادات الرّيف التي تُعَسِّرُ عمليةَ الزّواج أحيانا كثيرة ، تقدّمَ لها أكثر من عريس ، لكنها كانت ترفضهم وتتمرد على الطريقة التقليدية في الزواج ، لأن حلمها أن تلتقي بفارس أحلامها تحبُّهُ ويُحبُّها ، فقد كانت ليلى تتابع شاشة التلفاز وتشاهد الكثير من المسلسلات والأفلام الرّومانسية ، حيث كانت تتابع الفيلم الرومانسي الذي كان ينتهي بلقاء الحبيبين ، واللذان كانا يختمانه بتلك القُبلة السّاخنة التي كانت تنتظرها بشوقٍ قبل أن تكتب شارة النهاية .
كانت ليلى تحبُّ الكتابة أيضاً ، فهي رومانسية المشاعر والأحاسيس ، كانت تفضل اعتزال الناس حتى أختيها لم تكن على علاقة قوية معهن ، فكان يتم اللقاء العائلي في أوقات الطّعام ، أو عندما يُفصل التيار الكهربائي ، وتنقطع شبكة الأنترنت لتجتمع العائلة وتبدأ الأم والأخوات يتبادلن النُّكات والأحجيات والقصص القديمة ، حتى يعود التّيار الكهربائي من جديد ، حيث تتفرق العائلة مرّة أخرى ويعود كل منهم لِعالمهِ الخاص ، رغم هذه الأجواء ، إلا أن ليلى لم تكن سعيدة ، بل كانت تمضي أيامها في ألم .
فتحت ليلى النافذة كعادتها تتأمل الطبيعة الجميلة ، التي تستفز مشاعرها تارة لتسرح بعالم ذكرياتها ، وأحيانا تنزل دموعها عندما تستدير لتمسك القلم من أجل أن تكتب فصلا جديدا من أيامها الجميلة التي لم يبق منها إلا ذكريات ، عندما وقعت بحب شاب وسيم اسمه رائد ، حيث أحبتْ فيه نبرة الهدوء التي تنبس بها شفتيه ، عشقت فيه تلك النّظرات التي كانت تتجه أرضا عندما كان يشعر أنها مصوّبةٌ نحوهُ .
أمسكت ليلى قلمها وبدأت تكتب مذكراتها التي سرعان ما كانت تتوقف عن الكتابة بسبب الدموع التي كانت تحجب عنها الرؤية مما يعيقها عن الكتابة ، وتستمر ليلى بالكتابة ومما كتبته في مذكراتها :
لم يكن رائد الشخص الأول الذي عرفته ، فقد زار بيتنا الكثيرون ، ليتقدّموا لخطبتي من قريتنا أو من بعض القرى المجاورة ، ولكن رائد كان الحبيب الذي فتحت له حجرات قلبي ، وأدخلته في عيوني وأطبقت الجفون عليه ، وتضيف ليلى : لم أنس ذلك اللقاء الذي جمعني بذلك الشاب الخجول الذي كان يطيل النظرات أرضا ، عندما كنت أنظر في اتجاهه ، شدّني ذلك الموقف ، وقررت أن أمضي بالطريق نحو قلبه ، رغم أن تلك الطريق لم تكن مفروشة بالورود ، فنحن نعيش بالريف ، والريف يؤمن بشرف العائلة ، وأن البنت تتزوج من ابن عمّها ، وأن البنت لا يحق لها أن ترفض عريسا جاء ليكمل لها نصف دينها ، وأن العشق والغرام من المُحرّمات ، مع هذا قررت أن تكون مفاتيح قلبي بيد حبيبي رائد ، الذي كان يعمل في ذلك المحل ، فكرت بالأمر وقررت أن أبدأ أنا بالعلاقة ، تظاهرت أني نسيت كيسا في المحل وخرجت ، وإذا بصوت يتبعني وينادي علي بنبرة تجمع بين الخوف والحياء ، هل هذا الكيس لك ؟ كانت هذه أول الكلمات التي سمعتها منه ، نظرتُ إليه من أجل أن أسترد الكيس وأشكره ، لكنه صوَّب نظراته أرضاً ، أخذت الكيس منه ، وتوجهت إلى الحافلة وصعدت إليها ، ثم جلست قرب النافذة بسبب الدوار والغثيان الذي يصيبني بسبب وعورة الطّريق الموصلة للقرية ، سرحت في خيالي لأتذكر رائد وهدوئه الذي أشعرني بالمزيد من الشوق والحنين إليه ...تخيلت نظراته إليّ كيف ستكون عندما أكون بين أحضانه ، وكيف ستكون كلماته وحركاته ... وامتلأت عيناها بالدموع فتوقفتْ عن الكتابة ...
وتستمر ليلى بكتابة ذكرياتها والتي أضافت فيها : ... وبعد أيام قررتُ العودةَ إلى ذلك المحل حتى أرى رائد ، فقد عشقته بكل تفاصيله ولا أدري لماذا ، طلبتُ من أمّي أنني أريد شراء بعض الأواني الضرورية من المدينة ، عارضتني أمي في البداية ، لكن وبعد إلحاح وإقناع وافقت أمي على ذلك ...
في صبيحة ذلك اليوم الذي هو من عمري استيقظتُ باكرا ، لبستُ أجمل ملابسي ، وتطيبت ثم خرجت من البيت مهرولة نحو الحافلة ، حتى لا تفوتني تلك الرحلة المقدسة إلى المدينة ، كنت أشعر أن الطّريق طويل جدا ، أو أن الحافلة تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحلُ ، وبعد وقت وصلت الحافلة ، لكن الوقت لا يزال باكراً ، قلتُ في نفسي سأجلس في مقابل المحل ، وبعد أن يبدأ الناس بالدخول للمحل سأتبعهم رويدا ، دخلت المحل وعيني تكاد تأكل زواياه باحثا عن روحي التي تركتها هنا منذ اللقاء السّابق ، وفجأةً ظهر رائد وكان يتعامل مع أحد الزوار ، لكن عيناهُ اتجاهي ، ولكن عندما كنت أنظر باتجاهه يوجه عينيه أرضا ، فقررت أن أحسم الأمر ، ناولته ورقة وكتبت له فيها أحبك ورسمت له قلب حب ، فأنا ريفية ولا أتقن تصرفات بنات المدينة ، ودقات قلبي متسارعة ، لأني لا أعرف حتى هذه اللحظة أنه متزوج أم لا ، أخذ الورقة وابتعد ثم قرأ ما كتبته له ، احمرَّ وجهه وتصبب عرقه وزاد خجله ، فأشعل النار في قلبي أكثر ، فكتب لي ورقة وأعطاني إياها أثناء إرجاعه لي بعض المال بعد شراء تلك الأواني ، خرجتُ من المحل متلهفة ، أريد أن أقرأ ماذا كتب لي ...فتحت الورقة واغرورقت عيناي بالدموع وتوقفت عن الكتابة ...
وبعد أن استفاقت ليلي من حالة الشجن التي فجرت بحر ذكرياتها وتأملت السّماء فكان القمر بدرا ، وكانت بعض السحب تغطي أجزاء منه لفترات ثم يعود يظهر من جديد ، هذه الحالة منحتها بعض القوة لتستمر بكتابة مذكراتها وذكرياتها مع حبيبها رائد حيث كتبت : وبعد أن قرأتُ الورقة عرفتُ أنه يذوبُ بي حُبا وغراما ، وأنه كان يتوقع عودتي ، لأن القلوب والأرواح تتلاقى وتتقارب لأن هذا الأمر ليس لدينا سلطانا عليه ، وطلب مني أن يدعوني لوجبة نتناولها معا ليحدث بيننا تعارف أكثر ، ادعيت الرفض في بداية الأمر ، رغم أنني كنت أشتهي ذلك وبشدة ، ليس حبا في الطعام ، بل من أجل أن أجلس أمامه وأتأمله أكثر فهو قلبي وروحي ونفسي الذي أتنسمه ، كان الأمر صعبا علي في بداية الأمر ، فأنا من بيئة ريفية ، ولم يكن سهلا أن أجلس مع شخص غريب وخاصة أن الكثير من أهل القرية يعرفوني ، وأن الأمر يصل للقتل ، مع هذا رفضت تلك القيود وقررت أن أخوض تلك المغامرة .
اختار لي حبيبي رائد مكانا جميلا نجلس فيه ، يبتعد عن مركز المدينة حتى لا يكتشف أمرنا ، لكني حاولت أن يكون هذا اللقاء الأول والأخير ، حتى لا نقع في أمر جلل يصعب علاجه ...
دخلت إلى ذلك المكان الفسيح ، وتصيدت بنظري وبسرعة كل زواياه ، حتى أتأكد أنه لا أحد هناك يعرفني ، وكانت أجمل اللحظات ، وعادت الدموع لتقطع حبل أفكار ليلى من جديد ...
قامت ليلى إلى المطبخ لتعد فنجانا من القهوة عسى أن يكون رفيقها وهي ترتشف منه ما يعيد لها بعض تلك الذكريات التي كلما دقت جدرانها زادتها لوعة وأحزانا ، وبعد أن جهزت قهوتها عادت ليلى لتكمل لنا بقية الحكاية ، ... لقد كان لقاء لا يشبهه أي لقاء آخر ، بدأت أسترق منه النظرات ، في وقت بدأ يرفع رأسه لينظر إلى وجهي لكن كأن عيونه عليها ضباب من الخجل ، وبدأ يتمتم ماذا أطلب لك يا .... وكان لا يزال يجهل اسمي ، فسارعت وقلت له ليلى فقال **** ما أجمل هذا الاسم ليلى معشوقة الشعراء ، ابتسمت لكلامه لأني تفاجأت أنه إنسان مثقف وليس مجرد بائع بسيط ، فقال لي وهو يتمتم مرتبكا : ليلى ، لقد سحرني جمالك وجمال اسمك ، آه يا ليلى كم سهرت الليالي وأنا أفكر بتلك الفتاة الجميلة ، والتي فر قلبي منى يريد احتضانها ... أسف يا ليلى يبدو أنني أأأسأت الأدب ، نظرت إليه وتمنيت أن يضمني لصدره الحنون في تلك اللحظة ، وتمنيت أن أقبله تلك القبلات الساخنة التي كنت أذوب فيها وأنا أشاهد أفلام الساندريلا وميرفت أمين ونجلاء فتحي وغيرهما ، تخيلت نفسي أحدى تلك الفنانات الفاتنات في ذلك الزمن الجميل ، قطع حبل أفكاري عندما قال لي لولي ما بك يا حبيبتي ؟ أذابتني تلك الكلمات التي لم أسمعها من أحد في حياتي ، أردت البكاء والصراخ ، لكني تمالكت نفسي ونظرت إليه وتنهدت وكنت على وشك البكاء ، كنت كالجبل البركاني امتزجت كل المشاعر ببعضهما الفرح مع الألم ، الأمل مع الخوف ... كلها امتزجت معا قلت له عرفت اسمك عندما نادى عليك صاحب المحل وقال رائد ، عرفت أنك رائد قلبي وروحي ، عرفت أن ... أخجل أن أقول ، لا عليك أكملي يا عمري ، أحسست أنك قدري ، عرفت أن القدر ساق لي حبيبا أستظل بظله ، يمنحني الحب والعطف والحنان ، وبدأت في البكاء ، فقال لي : لماذا هذه الدموع يا عمري ، إنها تحرقني ، أرجوك يا ليلى توقفي عن البكاء ، فأنا لا أحتمل هذه الدموع ، وكاد أن يبكي ، مسحت دموعي ، وحاولت أن أبتسم ، وقلت له ماذا ستطعمني ؟ أكيد فلا ، قطع علي الكلام وقال : اطلبي ما ترغبين يا عمري ، فقلت له ليس لدي رغبة في الطعام ، أريد أن أملأ عيوني منك يا عمري وعدت للبكاء مرة أخرى ، فأخرج من جيبه منديلا وأراد أن يمسح دموعي ، رفضت ذلك وأخذتها من يده ، فلامست يدي أصابعه ، شعرت عندها بدفء غريب ، وتمنيت لو أن يمسك يدي بكل قوته ليمنحني مزيدا من الدفء والحنان ، وانهمرت الدموع من جديد لتقطع على ليلى حبل أفكارها وتنقطع عن الكتابة من جديد ...
وبعد أن استعادت ليلى أنفاسها تابعت الحديث عن ذكرياتها التي قالت فيها : نظرت إلى رائد وعيوني تذوب عشقا لكل ما فيه وقلت له بصوت مهموس أحبك ... وأنزلت عيوني أرضا وأحسست أني تمردت على كل القوانين ، فبدأ يقرب يده من وجهي وهي ترتجف ، محاولا رافع رأسي ومتأملا وجهي ، ثم ابتسم وأغمض عيونه طويلا كأنه سيحتفظ بذاكرة ذلك اللقاء الحميم في عقله ويخبئها داخل جفونه ، عندها حضر صاحب المطعم ليقطع علينا ذلك اللقاء الرومانسي الذي لن يتكرر أبدا فقال لقد جئت إلى هذه الطاولة ثلاث مرات وأنتم تؤجلون الطعام ، هل أحضره لكم ؟ فقال رائد أكيد وطلب لنا وجبة من اللحم المشوي والعصير البارد ، وتناولنا الطعام وعيوننا تتبادل النظرات المليئة بالحب والحنان ..
قلت له رائد وهمست له حبيبي وعمري ، لن أستطيع العودة والجلوس في هذا المكان ، لأنك يا حياتي تعلم كم غامرت وجازفت من أجل أن أراك ، فقال لي : وأنا لن أقبل يا عمري أن أتسبب بأي ضرر لك ، فأنت روحي وكل حياتي ، قلت له أنا من الريف وأبي متوفي منذ عشر سنوات تقريبا ، أعيش مع أمي وأخواتي سلوى ونجوى ، ، فسكت رائد فترة وجيزة وأراد أن يتحدث وكان لا يزال الحياء يسيطر على أركانه لولي ... قاطعته هل تعلم يا حبيبي كم عمري ؟ فقال عشرين سنة ، ضحكتُ وقلت له صحيح أننا معشر النساء لا نحب إظهار أعمارنا لكني سأكون صادقة معك وأقول بعد أسبوع سيكون عمري ست وعشرون سنة ، فقال لي رائد : العمر كله يا حياتي ، لكن لا يظهر عليك هذا العمر يا ليلى ، فقلت له نحن بنات الأرياف نتغذى من أرضنا ونبتعد عن تشويه وجوهنا بكثرة استعمال مستحضرات التجميل ، فضحك وقال : هذا أول باب توفير ... فقلت له وأنا أضحك : لكننا نحب الذهب ، وقفت بعدها وقلت : لا بُدَّ لي يا عمري من العودة للقرية قبل أن تفوتني الحافلة ، فقريتنا لا تزورها الحافلة إلا مرتين يوميا ، في الصباح وبعد الظهر ، فقام وبدت عليه علامات الحزن وقال : وكيف سأراك يا حبيبتي ؟ فقلت له ما رأيك أن تزورني في عيد ميلادي ؟ فرح للدعوة ، لكنه قال كيف سأزورك وأنت تسكنين قرية وأعرف أن هذا الأمر غير مألوف عندكم ! أجبته صحيح أننا نعيش في الريف ، لكن الريف أصبح منفتحا مثل المدينة ، استغرب من كلامي لأني لم أكن صادقة معه هذه المرة ، لأني أريده وأريد أن يأتي ولو بطريقة خاطئة ، فقال لي : حسنا يا حبيبتي ، وماذا ترغبين أن أحمل لك معي هدية ؟ أجبته لا أريد شيئا ، أريدك فقط ، فعاد وارتبك وغشيته نوبة الحياء مرة أخرى ، فقلت له : حبيبي إذا أردت أن تهديني شيئا فأفضِّلُ باقةً من الورد ، ضحك وقال فقط ؟ قلت فقط ، أريدك أن تحتفظ بالمال من أجل أن تتقدم لخطبتي ، فأنا أريدك يا رائد أرجوك يا حبيبي لا تتركني وعادت الدموع من جديد لتقطع حبل أفكارها وتتوقف عن الكتابة من جديد ..
وتابعت ليلى ذكرياتها وبدأت تكتب كلماتها والألم يعتصر الفؤاد وقالت : أراد رائد أن يتوجه معي إلى الحافلة ، لكني منعته من ذلك لأن معظم من في الحافلة يعرفوني جيدا ، فقلت له مازحة : حبيبي ارجع لمكان عملك قبل أن يطردك صاحب المحل ، وركبت الحافلة وهو ينظر إلي من بعيد ، وبقي يراقب الحافلة وأنا أنظر إليه من خلال زجاج النافذة ، وتحركت الحافلة وبقيت أنظر إليه حتى توارى عن الأنظار ، فكانت هذه النظرة الأخيرة التي أشاهده فيها ، كنت أعيش داخلة ، فأصبح قلبي ينبض باسمِهِ ، كنت سعيدة وحزينة في آنٍ واحد ، سعيدة لأنني التقيت بحبيب العمر وقال أحبك ، وما أروعها من كلمة عندما تخرج صادقة ، وحزينة لأني لن أرى حبيبى رائد إلا بعد أسبوع ، فأصبحت أحصي الزمن بالدقائق ، فلوعة الاشتياق هي التي سادت عواطفي تلك اللحظة ، ويأتي اليوم الموعود بعد عناء الانتظار ، رائد سيصل القرية هذا اليوم بعد أن أرشدته لعنوان المنزل ، ووعدني بباقة ورد ، فاليوم عيد ميلادي ، وعيد لقائي بحبيبي رائد ، أخبرت أمي بقصة رائد ، لكنها عارضت هذه الزيارة بشدة وقالت : هذه الزيارة ستجعل الألسنة تطول وتصول وتجول في أعراضنا ، فقلت لها إن لم تقبلي الزيارة سأذهب إليه أنا ، فضربتني على وجهي ، فقمت باكية وأغلقت باب غرفتي ، لكن أمي كانت ذو صدر حنون ، فهي أمي وأبي بنفس الوقت ، والتي ضحت من أجل تربيتنا ورفضت الزواج حتى لا تترك الأيام القاسية تنهش أجسادنا ، واقتنعت أمي في نهاية الأمر وجهزنا ضيافة متواضعة وكذلك قامت أختي نجوى بصنع الكعكة وزينتها احتفالا بعيد ميلادي ، وفي ساعات المساء حضر رائد من المدينة وبيده باقة الورد وكذلك عقدا محفور عليه اسمي ، نزل من المركبة الخاصة وهمَّ أن يقطع الطريق ، وإذا بمركبة تسير بشكل جنوني أصاب فراملها التلف ، حاول رائد أن يسرع الخطى ، لكن القدر كان أسرع منه ، فقد صدمته تلك المركبة بكل قوتها ، فتطايرت باقة الورد عاليا وارتطمت أرضا ليدوس عليها الناس بأرجلهم أثناء محاولة إسعافه ، فتحت باب المنزل لأرى ذلك المشهد الرهيب فوجه رائد مُضمَّخا بدمائه ، وعروق الورد تتناثر هنا وهناك ، وبعد أكثر من نصف ساعة حضرت سيارة الإسعاف ونزل منها المسعفون وقاموا برفع رائد وأنا أصرخ ولا أدري ماذا أفعل ، وأهل الحي ينظرون إلي َّ باستغراب هل تعرفينه ؟ فكذبت عليهم وقلت أنه أبن خالتي يسكن في المدينة وجاء لزيارة أمي ، وسارت سيارة الإسعاف تشق الفضاء مسرعة عسى أن يكتب لرائد عمر جديد ، وركبت أمي سيارة الإسعاف حتى لا ينكشف أمرنا ، وقبل دخوله المستشفى كان قد فارق الحياة ، مسدلا بذلك قصة حب انتهت فصولها يوم ميلادي ....
النّهاية
في يومٍ ربيعيٍّ جميل ، استيقظتْ ليلى من نَومها ، على غيرِ عادتِها ، فتحتْ نافذةَ غُرفتها وبدأتْ تستشرفُ الطّبيعةَ الجميلةَ الوادعةَ ، أصواتٌ مُتداخلة حيثُ الهواءُ العليلُ وأصوات طيور الصّباح الّتي تتغنّى بأصواتها الجميلة ، مع هذه الأجواء الوادعة الجميلة تُخرِجُ ليلى تنهيدةً عميقةً حيث عاد الحزنُ ليتسلّل إلى ذاكرتها المتوهجة ألما ، مما أصابها بنوبة بكاء شديدة ... فمن هي ليلى وما قصّتها ؟
ليلى ذلك الاسم الجميل ، الذي دللها به ذلك الشّابُّ الوسيم الذي تعرفتْ عليه صُدفة في محلٍ لبيعِ الأدواتِ المنزلية ، عندما كانت بمدينة الأحلام في ذلك الوقت ، حيث تعيش ليلى في بيت ريفي جميل مع أمها سامية وأختيها سلوى ونجوى ، توفي والدها قبل عشر سنوات بسبب إصابته بمرض السّرطان ذلك المرض الخبيث الذي أقض مضجعه ومضجع العائلة التي كانت تتمنى شفاءه ، مما جعله يتنقل من عيادة لأخرى ، ومِن مشفى لِمشفى آخر ، حتى أوصله الحال في دهاليز القبر ، حيث أبعده عن أحضان زوجته ، وبناته الثلاث ، ليلى هي أكبر أخواتها سنّاً ، والتي كانت تتخذُ من الطّابق العلوي غرفة تسكنها لأنها تطل على الحديقة الجميلة ذات الأشجار العالية ، والتي تُخفي بين أوراقها الكثيفة الكثير من الأعشاش لبعض الطيور ، تلك الأعشاش التي فتحت شهيتها أن يكون لها مثل بقية البنات ، مع حبيبها رائد ، عش الزّوجية الوادع الجميل .
اقتربت ليلى من الخامسة والعشرين سنة من عمرها ، لم تتزوج بسبب عادات الرّيف التي تُعَسِّرُ عمليةَ الزّواج أحيانا كثيرة ، تقدّمَ لها أكثر من عريس ، لكنها كانت ترفضهم وتتمرد على الطريقة التقليدية في الزواج ، لأن حلمها أن تلتقي بفارس أحلامها تحبُّهُ ويُحبُّها ، فقد كانت ليلى تتابع شاشة التلفاز وتشاهد الكثير من المسلسلات والأفلام الرّومانسية ، حيث كانت تتابع الفيلم الرومانسي الذي كان ينتهي بلقاء الحبيبين ، واللذان كانا يختمانه بتلك القُبلة السّاخنة التي كانت تنتظرها بشوقٍ قبل أن تكتب شارة النهاية .
كانت ليلى تحبُّ الكتابة أيضاً ، فهي رومانسية المشاعر والأحاسيس ، كانت تفضل اعتزال الناس حتى أختيها لم تكن على علاقة قوية معهن ، فكان يتم اللقاء العائلي في أوقات الطّعام ، أو عندما يُفصل التيار الكهربائي ، وتنقطع شبكة الأنترنت لتجتمع العائلة وتبدأ الأم والأخوات يتبادلن النُّكات والأحجيات والقصص القديمة ، حتى يعود التّيار الكهربائي من جديد ، حيث تتفرق العائلة مرّة أخرى ويعود كل منهم لِعالمهِ الخاص ، رغم هذه الأجواء ، إلا أن ليلى لم تكن سعيدة ، بل كانت تمضي أيامها في ألم .
فتحت ليلى النافذة كعادتها تتأمل الطبيعة الجميلة ، التي تستفز مشاعرها تارة لتسرح بعالم ذكرياتها ، وأحيانا تنزل دموعها عندما تستدير لتمسك القلم من أجل أن تكتب فصلا جديدا من أيامها الجميلة التي لم يبق منها إلا ذكريات ، عندما وقعت بحب شاب وسيم اسمه رائد ، حيث أحبتْ فيه نبرة الهدوء التي تنبس بها شفتيه ، عشقت فيه تلك النّظرات التي كانت تتجه أرضا عندما كان يشعر أنها مصوّبةٌ نحوهُ .
أمسكت ليلى قلمها وبدأت تكتب مذكراتها التي سرعان ما كانت تتوقف عن الكتابة بسبب الدموع التي كانت تحجب عنها الرؤية مما يعيقها عن الكتابة ، وتستمر ليلى بالكتابة ومما كتبته في مذكراتها :
لم يكن رائد الشخص الأول الذي عرفته ، فقد زار بيتنا الكثيرون ، ليتقدّموا لخطبتي من قريتنا أو من بعض القرى المجاورة ، ولكن رائد كان الحبيب الذي فتحت له حجرات قلبي ، وأدخلته في عيوني وأطبقت الجفون عليه ، وتضيف ليلى : لم أنس ذلك اللقاء الذي جمعني بذلك الشاب الخجول الذي كان يطيل النظرات أرضا ، عندما كنت أنظر في اتجاهه ، شدّني ذلك الموقف ، وقررت أن أمضي بالطريق نحو قلبه ، رغم أن تلك الطريق لم تكن مفروشة بالورود ، فنحن نعيش بالريف ، والريف يؤمن بشرف العائلة ، وأن البنت تتزوج من ابن عمّها ، وأن البنت لا يحق لها أن ترفض عريسا جاء ليكمل لها نصف دينها ، وأن العشق والغرام من المُحرّمات ، مع هذا قررت أن تكون مفاتيح قلبي بيد حبيبي رائد ، الذي كان يعمل في ذلك المحل ، فكرت بالأمر وقررت أن أبدأ أنا بالعلاقة ، تظاهرت أني نسيت كيسا في المحل وخرجت ، وإذا بصوت يتبعني وينادي علي بنبرة تجمع بين الخوف والحياء ، هل هذا الكيس لك ؟ كانت هذه أول الكلمات التي سمعتها منه ، نظرتُ إليه من أجل أن أسترد الكيس وأشكره ، لكنه صوَّب نظراته أرضاً ، أخذت الكيس منه ، وتوجهت إلى الحافلة وصعدت إليها ، ثم جلست قرب النافذة بسبب الدوار والغثيان الذي يصيبني بسبب وعورة الطّريق الموصلة للقرية ، سرحت في خيالي لأتذكر رائد وهدوئه الذي أشعرني بالمزيد من الشوق والحنين إليه ...تخيلت نظراته إليّ كيف ستكون عندما أكون بين أحضانه ، وكيف ستكون كلماته وحركاته ... وامتلأت عيناها بالدموع فتوقفتْ عن الكتابة ...
وتستمر ليلى بكتابة ذكرياتها والتي أضافت فيها : ... وبعد أيام قررتُ العودةَ إلى ذلك المحل حتى أرى رائد ، فقد عشقته بكل تفاصيله ولا أدري لماذا ، طلبتُ من أمّي أنني أريد شراء بعض الأواني الضرورية من المدينة ، عارضتني أمي في البداية ، لكن وبعد إلحاح وإقناع وافقت أمي على ذلك ...
في صبيحة ذلك اليوم الذي هو من عمري استيقظتُ باكرا ، لبستُ أجمل ملابسي ، وتطيبت ثم خرجت من البيت مهرولة نحو الحافلة ، حتى لا تفوتني تلك الرحلة المقدسة إلى المدينة ، كنت أشعر أن الطّريق طويل جدا ، أو أن الحافلة تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحلُ ، وبعد وقت وصلت الحافلة ، لكن الوقت لا يزال باكراً ، قلتُ في نفسي سأجلس في مقابل المحل ، وبعد أن يبدأ الناس بالدخول للمحل سأتبعهم رويدا ، دخلت المحل وعيني تكاد تأكل زواياه باحثا عن روحي التي تركتها هنا منذ اللقاء السّابق ، وفجأةً ظهر رائد وكان يتعامل مع أحد الزوار ، لكن عيناهُ اتجاهي ، ولكن عندما كنت أنظر باتجاهه يوجه عينيه أرضا ، فقررت أن أحسم الأمر ، ناولته ورقة وكتبت له فيها أحبك ورسمت له قلب حب ، فأنا ريفية ولا أتقن تصرفات بنات المدينة ، ودقات قلبي متسارعة ، لأني لا أعرف حتى هذه اللحظة أنه متزوج أم لا ، أخذ الورقة وابتعد ثم قرأ ما كتبته له ، احمرَّ وجهه وتصبب عرقه وزاد خجله ، فأشعل النار في قلبي أكثر ، فكتب لي ورقة وأعطاني إياها أثناء إرجاعه لي بعض المال بعد شراء تلك الأواني ، خرجتُ من المحل متلهفة ، أريد أن أقرأ ماذا كتب لي ...فتحت الورقة واغرورقت عيناي بالدموع وتوقفت عن الكتابة ...
وبعد أن استفاقت ليلي من حالة الشجن التي فجرت بحر ذكرياتها وتأملت السّماء فكان القمر بدرا ، وكانت بعض السحب تغطي أجزاء منه لفترات ثم يعود يظهر من جديد ، هذه الحالة منحتها بعض القوة لتستمر بكتابة مذكراتها وذكرياتها مع حبيبها رائد حيث كتبت : وبعد أن قرأتُ الورقة عرفتُ أنه يذوبُ بي حُبا وغراما ، وأنه كان يتوقع عودتي ، لأن القلوب والأرواح تتلاقى وتتقارب لأن هذا الأمر ليس لدينا سلطانا عليه ، وطلب مني أن يدعوني لوجبة نتناولها معا ليحدث بيننا تعارف أكثر ، ادعيت الرفض في بداية الأمر ، رغم أنني كنت أشتهي ذلك وبشدة ، ليس حبا في الطعام ، بل من أجل أن أجلس أمامه وأتأمله أكثر فهو قلبي وروحي ونفسي الذي أتنسمه ، كان الأمر صعبا علي في بداية الأمر ، فأنا من بيئة ريفية ، ولم يكن سهلا أن أجلس مع شخص غريب وخاصة أن الكثير من أهل القرية يعرفوني ، وأن الأمر يصل للقتل ، مع هذا رفضت تلك القيود وقررت أن أخوض تلك المغامرة .
اختار لي حبيبي رائد مكانا جميلا نجلس فيه ، يبتعد عن مركز المدينة حتى لا يكتشف أمرنا ، لكني حاولت أن يكون هذا اللقاء الأول والأخير ، حتى لا نقع في أمر جلل يصعب علاجه ...
دخلت إلى ذلك المكان الفسيح ، وتصيدت بنظري وبسرعة كل زواياه ، حتى أتأكد أنه لا أحد هناك يعرفني ، وكانت أجمل اللحظات ، وعادت الدموع لتقطع حبل أفكار ليلى من جديد ...
قامت ليلى إلى المطبخ لتعد فنجانا من القهوة عسى أن يكون رفيقها وهي ترتشف منه ما يعيد لها بعض تلك الذكريات التي كلما دقت جدرانها زادتها لوعة وأحزانا ، وبعد أن جهزت قهوتها عادت ليلى لتكمل لنا بقية الحكاية ، ... لقد كان لقاء لا يشبهه أي لقاء آخر ، بدأت أسترق منه النظرات ، في وقت بدأ يرفع رأسه لينظر إلى وجهي لكن كأن عيونه عليها ضباب من الخجل ، وبدأ يتمتم ماذا أطلب لك يا .... وكان لا يزال يجهل اسمي ، فسارعت وقلت له ليلى فقال **** ما أجمل هذا الاسم ليلى معشوقة الشعراء ، ابتسمت لكلامه لأني تفاجأت أنه إنسان مثقف وليس مجرد بائع بسيط ، فقال لي وهو يتمتم مرتبكا : ليلى ، لقد سحرني جمالك وجمال اسمك ، آه يا ليلى كم سهرت الليالي وأنا أفكر بتلك الفتاة الجميلة ، والتي فر قلبي منى يريد احتضانها ... أسف يا ليلى يبدو أنني أأأسأت الأدب ، نظرت إليه وتمنيت أن يضمني لصدره الحنون في تلك اللحظة ، وتمنيت أن أقبله تلك القبلات الساخنة التي كنت أذوب فيها وأنا أشاهد أفلام الساندريلا وميرفت أمين ونجلاء فتحي وغيرهما ، تخيلت نفسي أحدى تلك الفنانات الفاتنات في ذلك الزمن الجميل ، قطع حبل أفكاري عندما قال لي لولي ما بك يا حبيبتي ؟ أذابتني تلك الكلمات التي لم أسمعها من أحد في حياتي ، أردت البكاء والصراخ ، لكني تمالكت نفسي ونظرت إليه وتنهدت وكنت على وشك البكاء ، كنت كالجبل البركاني امتزجت كل المشاعر ببعضهما الفرح مع الألم ، الأمل مع الخوف ... كلها امتزجت معا قلت له عرفت اسمك عندما نادى عليك صاحب المحل وقال رائد ، عرفت أنك رائد قلبي وروحي ، عرفت أن ... أخجل أن أقول ، لا عليك أكملي يا عمري ، أحسست أنك قدري ، عرفت أن القدر ساق لي حبيبا أستظل بظله ، يمنحني الحب والعطف والحنان ، وبدأت في البكاء ، فقال لي : لماذا هذه الدموع يا عمري ، إنها تحرقني ، أرجوك يا ليلى توقفي عن البكاء ، فأنا لا أحتمل هذه الدموع ، وكاد أن يبكي ، مسحت دموعي ، وحاولت أن أبتسم ، وقلت له ماذا ستطعمني ؟ أكيد فلا ، قطع علي الكلام وقال : اطلبي ما ترغبين يا عمري ، فقلت له ليس لدي رغبة في الطعام ، أريد أن أملأ عيوني منك يا عمري وعدت للبكاء مرة أخرى ، فأخرج من جيبه منديلا وأراد أن يمسح دموعي ، رفضت ذلك وأخذتها من يده ، فلامست يدي أصابعه ، شعرت عندها بدفء غريب ، وتمنيت لو أن يمسك يدي بكل قوته ليمنحني مزيدا من الدفء والحنان ، وانهمرت الدموع من جديد لتقطع على ليلى حبل أفكارها وتنقطع عن الكتابة من جديد ...
وبعد أن استعادت ليلى أنفاسها تابعت الحديث عن ذكرياتها التي قالت فيها : نظرت إلى رائد وعيوني تذوب عشقا لكل ما فيه وقلت له بصوت مهموس أحبك ... وأنزلت عيوني أرضا وأحسست أني تمردت على كل القوانين ، فبدأ يقرب يده من وجهي وهي ترتجف ، محاولا رافع رأسي ومتأملا وجهي ، ثم ابتسم وأغمض عيونه طويلا كأنه سيحتفظ بذاكرة ذلك اللقاء الحميم في عقله ويخبئها داخل جفونه ، عندها حضر صاحب المطعم ليقطع علينا ذلك اللقاء الرومانسي الذي لن يتكرر أبدا فقال لقد جئت إلى هذه الطاولة ثلاث مرات وأنتم تؤجلون الطعام ، هل أحضره لكم ؟ فقال رائد أكيد وطلب لنا وجبة من اللحم المشوي والعصير البارد ، وتناولنا الطعام وعيوننا تتبادل النظرات المليئة بالحب والحنان ..
قلت له رائد وهمست له حبيبي وعمري ، لن أستطيع العودة والجلوس في هذا المكان ، لأنك يا حياتي تعلم كم غامرت وجازفت من أجل أن أراك ، فقال لي : وأنا لن أقبل يا عمري أن أتسبب بأي ضرر لك ، فأنت روحي وكل حياتي ، قلت له أنا من الريف وأبي متوفي منذ عشر سنوات تقريبا ، أعيش مع أمي وأخواتي سلوى ونجوى ، ، فسكت رائد فترة وجيزة وأراد أن يتحدث وكان لا يزال الحياء يسيطر على أركانه لولي ... قاطعته هل تعلم يا حبيبي كم عمري ؟ فقال عشرين سنة ، ضحكتُ وقلت له صحيح أننا معشر النساء لا نحب إظهار أعمارنا لكني سأكون صادقة معك وأقول بعد أسبوع سيكون عمري ست وعشرون سنة ، فقال لي رائد : العمر كله يا حياتي ، لكن لا يظهر عليك هذا العمر يا ليلى ، فقلت له نحن بنات الأرياف نتغذى من أرضنا ونبتعد عن تشويه وجوهنا بكثرة استعمال مستحضرات التجميل ، فضحك وقال : هذا أول باب توفير ... فقلت له وأنا أضحك : لكننا نحب الذهب ، وقفت بعدها وقلت : لا بُدَّ لي يا عمري من العودة للقرية قبل أن تفوتني الحافلة ، فقريتنا لا تزورها الحافلة إلا مرتين يوميا ، في الصباح وبعد الظهر ، فقام وبدت عليه علامات الحزن وقال : وكيف سأراك يا حبيبتي ؟ فقلت له ما رأيك أن تزورني في عيد ميلادي ؟ فرح للدعوة ، لكنه قال كيف سأزورك وأنت تسكنين قرية وأعرف أن هذا الأمر غير مألوف عندكم ! أجبته صحيح أننا نعيش في الريف ، لكن الريف أصبح منفتحا مثل المدينة ، استغرب من كلامي لأني لم أكن صادقة معه هذه المرة ، لأني أريده وأريد أن يأتي ولو بطريقة خاطئة ، فقال لي : حسنا يا حبيبتي ، وماذا ترغبين أن أحمل لك معي هدية ؟ أجبته لا أريد شيئا ، أريدك فقط ، فعاد وارتبك وغشيته نوبة الحياء مرة أخرى ، فقلت له : حبيبي إذا أردت أن تهديني شيئا فأفضِّلُ باقةً من الورد ، ضحك وقال فقط ؟ قلت فقط ، أريدك أن تحتفظ بالمال من أجل أن تتقدم لخطبتي ، فأنا أريدك يا رائد أرجوك يا حبيبي لا تتركني وعادت الدموع من جديد لتقطع حبل أفكارها وتتوقف عن الكتابة من جديد ..
وتابعت ليلى ذكرياتها وبدأت تكتب كلماتها والألم يعتصر الفؤاد وقالت : أراد رائد أن يتوجه معي إلى الحافلة ، لكني منعته من ذلك لأن معظم من في الحافلة يعرفوني جيدا ، فقلت له مازحة : حبيبي ارجع لمكان عملك قبل أن يطردك صاحب المحل ، وركبت الحافلة وهو ينظر إلي من بعيد ، وبقي يراقب الحافلة وأنا أنظر إليه من خلال زجاج النافذة ، وتحركت الحافلة وبقيت أنظر إليه حتى توارى عن الأنظار ، فكانت هذه النظرة الأخيرة التي أشاهده فيها ، كنت أعيش داخلة ، فأصبح قلبي ينبض باسمِهِ ، كنت سعيدة وحزينة في آنٍ واحد ، سعيدة لأنني التقيت بحبيب العمر وقال أحبك ، وما أروعها من كلمة عندما تخرج صادقة ، وحزينة لأني لن أرى حبيبى رائد إلا بعد أسبوع ، فأصبحت أحصي الزمن بالدقائق ، فلوعة الاشتياق هي التي سادت عواطفي تلك اللحظة ، ويأتي اليوم الموعود بعد عناء الانتظار ، رائد سيصل القرية هذا اليوم بعد أن أرشدته لعنوان المنزل ، ووعدني بباقة ورد ، فاليوم عيد ميلادي ، وعيد لقائي بحبيبي رائد ، أخبرت أمي بقصة رائد ، لكنها عارضت هذه الزيارة بشدة وقالت : هذه الزيارة ستجعل الألسنة تطول وتصول وتجول في أعراضنا ، فقلت لها إن لم تقبلي الزيارة سأذهب إليه أنا ، فضربتني على وجهي ، فقمت باكية وأغلقت باب غرفتي ، لكن أمي كانت ذو صدر حنون ، فهي أمي وأبي بنفس الوقت ، والتي ضحت من أجل تربيتنا ورفضت الزواج حتى لا تترك الأيام القاسية تنهش أجسادنا ، واقتنعت أمي في نهاية الأمر وجهزنا ضيافة متواضعة وكذلك قامت أختي نجوى بصنع الكعكة وزينتها احتفالا بعيد ميلادي ، وفي ساعات المساء حضر رائد من المدينة وبيده باقة الورد وكذلك عقدا محفور عليه اسمي ، نزل من المركبة الخاصة وهمَّ أن يقطع الطريق ، وإذا بمركبة تسير بشكل جنوني أصاب فراملها التلف ، حاول رائد أن يسرع الخطى ، لكن القدر كان أسرع منه ، فقد صدمته تلك المركبة بكل قوتها ، فتطايرت باقة الورد عاليا وارتطمت أرضا ليدوس عليها الناس بأرجلهم أثناء محاولة إسعافه ، فتحت باب المنزل لأرى ذلك المشهد الرهيب فوجه رائد مُضمَّخا بدمائه ، وعروق الورد تتناثر هنا وهناك ، وبعد أكثر من نصف ساعة حضرت سيارة الإسعاف ونزل منها المسعفون وقاموا برفع رائد وأنا أصرخ ولا أدري ماذا أفعل ، وأهل الحي ينظرون إلي َّ باستغراب هل تعرفينه ؟ فكذبت عليهم وقلت أنه أبن خالتي يسكن في المدينة وجاء لزيارة أمي ، وسارت سيارة الإسعاف تشق الفضاء مسرعة عسى أن يكتب لرائد عمر جديد ، وركبت أمي سيارة الإسعاف حتى لا ينكشف أمرنا ، وقبل دخوله المستشفى كان قد فارق الحياة ، مسدلا بذلك قصة حب انتهت فصولها يوم ميلادي ....
النّهاية