في إحدى قرى الجبل التي يلفها الضباب صباحًا ويغمرها السكون ليلًا، كان فارس قد عاد من غربته الطويلة، مثقلًا بالذكريات والحنين إلى أرضه… وإلى ليلى.
كانت ليلى تنتظره، رغم مرور السنين. لم تكن تعرف إن كان سيعود، لكنها لم تحب غيره، ولم تسمح لقلبها أن ينسى وعده في آخر ليلة قبل رحيله:
"سأعود… وإن تأخرت، فانتظريني بنبضك، لا بوقتك."
مرت السنوات، وذات مساء خريفي، حين كانت أوراق الشجر تتساقط كأنها تودع الفصول، عاد فارس. وقف أمام منزلها القديم، بقلب يخفق كما لم يخفق من قبل. طرق الباب… ففتحته ليلى.
نظراتهما التقت، وكأن الزمن عاد بهما إلى لحظة الوداع الأولى. لم يتكلما، فقط العيون تحدثت، وقلوبهما استكملت الحديث الذي لم يُنهَ منذ سنوات.
دعته للدخول، وكان المكان كما تركه في ذاكرته… دافئ، برائحة الياسمين الذي اعتادت أن تزرعه قرب النافذة. جلست قربه، بصمت حميمي، حتى قالت بهدوء:
– "ظننت أنك لن تعود."
– "ظننت أنني سأقدر على النسيان… لكنك تسكنين حتى أنفاسي، يا ليلى."
مدّ يده وأمسك بكفها، كان دافئًا، واهتزت يدها بين أصابعه، كأن شيئًا عاد للحياة فيها. اقترب منها، دون تسرّع، بنبض رجل اشتاق، وعينين لا تزالان تتعلّمان كيف تنظران لحب لم يمت.
همس في أذنها:
– "هل تأذنين لي أن أبدأ من حيث انتهينا؟"
أغلقت عينيها وأجابت بنعومة:
– "ابدأ… وكن كل البدايات."
في تلك الليلة، لم يكن بينهما سوى الصدق، والشوق، وحنين السنين. احتضنها كمن يحضن وطنًا غاب عنه طويلًا. كانت لمسته على كتفها اعترافًا، وكانت أنفاسه قرب عنقها وعدًا جديدًا بأن لا يرحل مجددًا.
لم تكن مجرد لحظة جسدية، بل طقوس لقاء الأرواح، حين يُمحى الزمان، ويصير الجسد لغة حب، بلا كلمات.
نامت في حضنه، لأول مرة… وهو يهمس لها:
– "من الآن فصاعدًا، كل لي
لة ستبدأ بكِ وتنتهي بكِ."
مرّت أسابيع على عودة فارس، وكان الحب بينه وبين ليلى ينمو كزهور الربيع بعد شتاءٍ طويل. أمضيا أيامًا لا تُنسى، يكتشفان بعضهما من جديد، كأن كل منهما كتابٌ أعيدت كتابته بلغة الشوق.
لكن الحب لا يكتمل دون امتحان، ولا تستقر القلوب دون بعض العواصف الصغيرة.
ذات مساء، عاد فارس من البلدة المجاورة بعد أن بدأ العمل في شركة محلية. كان متعبًا، لكنه مشتاق لها كعادته. دخل البيت، ولم يجدها. سأل والدتها، فقالت له:
– "راحت على السوق… مع سامر، ابن خالتها."
لم يكن الاسم غريبًا، لكنه لم يكن مريحًا. سامر… الرجل الذي كان يسمع عنه دائمًا في رسائل ليلى القديمة، الصديق القريب، الذي "لم يكن أكثر من أخ". لكن فارس، مثل كل عاشق، لم يُحب كلمة "أخ" من رجل آخر.
انتظرها بهدوء… ظاهرًا. لكنه كان يغلي من الداخل. دخلت بعد ساعة، ووجهها يضحك من شيء قاله سامر قبل أن يودّعها على الباب. نظرت إلى فارس، ورأت في عينيه سؤالًا.
قالت بابتسامة:
– "رجعت؟ كيف كان يومك؟"
لم يجب، فقط قال:
– "مع سامر كنتِ؟"
تغيرت نبرتها، شعرت بما خلف صوته من غيرة، وقالت:
– "أيوا… طمني، في شي؟"
– "ما في شي… بس ما كنت بعرف إنك مبسوطة معه لهالدرجة."
قالتها بحدّة: – "شو قصدك؟"
– "قصدي إني رجعت كرمالك، مشان ألاقيك بتضحكي مع رجال غيري؟!"
اشتعل الموقف، بين كبرياءه وكرامتها، بين غيرته التي لم يعرف كيف يخفيها، وبين غضبها من شكّه المفاجئ.
صمتت، ثم قالت له بنبرة مخنوقة:
– "كنت عم حاول أرجّع حياتي قبل ما ترجع، وما كنت بعرف إذا راح توفي بوعدك. هو كان جنبي… بس قلبي؟ ما أعطيتو لحدا غيرك."
اقترب منها، لكن يدها صدّته. قالت:
– "أنا مش لعبة إلك تغار وتغضب وقت ما بدّك. إذا ما بتثق فيي… ما فينا نكمّل."
شعر فارس بالبرد يضرب قلبه، أدرك أنه تجاوز حدوده. جلس بصمت، يحدّق بالأرض. ثم رفع عينيه وقال:
– "أنا آسف، بس الغيرة مش بيدي… فكرة إنك كنتِ تضحكي معه وجعِتني."
اقترب منها ببطء، ومدّ يده ولمس خدها بلطف:
– "أنا مش خايف من سامر… أنا خايف من فكرة إني أتأخر عنك يوم، وتنسي كيف كنت تحبيني."
نظرت إليه، ودمعة خفيفة انسابت من عينها. قالت:
– "أنا ما نسيت… أنا كل يوم كنت عم أعيش على ذاكرتك. بس رجوعك ما يعني ترجع تتحكم بقلبي… قلبي إلك، بس مش غصب."
وفي لحظة هدوء، اقترب منها، وضمّها لصدره كأن كل كلمات العالم لا تكفي لاعتذاره.
– "بكرا خلينا نروح نتمشى سوا… بعيد عن كل شي، حتى عن سامر."
ضحكت، وقالت بنعومة:
– "بكرا… بس بشرط."
– "شو هو؟"
– "تضحكني أكتر من سامر."
في صباح اليوم التالي، كانت الشمس تتسلل بخجل عبر نافذة بيت ليلى، بينما كان قلبها لا يزال عالقًا في تفاصيل الليلة الماضية. كلمات فارس، غيرته، عتابه، واعتذاره… كلّها كانت تدور في رأسها مثل أغنية تعرفها جيدًا لكنها لم تسمعها منذ زمن.
رنّ هاتفها، رسالة من فارس:
"أنا قدام البيت… في مكان حابب آخدك عليه. ما تأخّري، اليوم إلنا."
خرجت إليه بثوبٍ بسيط، وشعرٍ مفرود على كتفيها، لا يخبّئ شيئًا. كانت خطواتها خفيفة كأنها تسير نحو مصير كتب لها من أول نظرة.
ركبا السيارة، وبقي صامتًا أول الطريق، لكنه كان ينظر إليها بين كل لحظة وأخرى وكأن في عينيه شيء جديد لم تقرأه من قبل.
وصلوا إلى طرف الجبل، حيث يطلّ المكان على الوادي… هناك حيث كانا يلعبان وهما صغيران. نزل وأمسك يدها، ثم جلسا على صخرة كبيرة تطلّ على المشهد كله.
قال لها:
– "ليلى… البارح كنت غبي. خفت، وغار قلبي، ونسيت إني واثق فيك. بس الحقيقة؟ إني مش بس راجع كرمالك… راجع أكمّل حياتي فيك."
نظرت إليه، هذه المرة بلا دموع، فقط بشيء ناضج في عينيها، وقالت:
– "أنا كمان… كنت ناطرتك ترجع، بس مش ترجع متلك، ترجع رجل جديد… يعرف إنه الحب مش سيطرة، الحب مشاركة."
سحب من جيبه صندوقًا صغيرًا مخمليًا. فتحت عيناها بدهشة ناعمة، بينما فتح هو العلبة وظهر فيها خاتم بسيط، لكنه دافئ كشمس الجبل.
– "أنا ما جبتلك شي غالي، بس جبت وعد… وعد إني ما أرجع أجرحك بظني، وإنه يكون اسمك مرافق لاسمي من اليوم وطالع."
ارتبكت، ضحكت، خجلت… ثم مدت يدها وقالت بهمس:
– "ما بدي غير هالوعد… والباقي منبنيه سوا."
ألبسها الخاتم، ومعه لحظة صامتة، عميقة، لم تحتج كلمات. اقترب منها، ولمس خدها كما في الليلة الأولى… لكن هذه المرة، كان اللمس مختلفًا: لمس رجل قرر أن يحبّ بأنضج ما فيه، وامرأة قررت أن تُسامح بحب، لا بضعف.
مرّ الوقت، وانتهى اليوم تحت الغروب، وهما متكئين على بعض، يراقبان كيف تغيب الشمس… لا حزينة، بل كأنها تتركهما لحياة تبدأ الآن.
نهاية القصة
فارس لم يعد ذلك الشاب الحالم فقط، بل صار رجلًا يعرف كيف يمسك بيد حبيبته ويمشي بها في كل المواسم، حتى لو اشتدت العواصف.
وليلى، لم تعد تلك التي تنتظر… بل صارت من تختار، وتسامح، وتُعطي حبًا لا يشبه أحدًا.
كانت ليلى تنتظره، رغم مرور السنين. لم تكن تعرف إن كان سيعود، لكنها لم تحب غيره، ولم تسمح لقلبها أن ينسى وعده في آخر ليلة قبل رحيله:
"سأعود… وإن تأخرت، فانتظريني بنبضك، لا بوقتك."
مرت السنوات، وذات مساء خريفي، حين كانت أوراق الشجر تتساقط كأنها تودع الفصول، عاد فارس. وقف أمام منزلها القديم، بقلب يخفق كما لم يخفق من قبل. طرق الباب… ففتحته ليلى.
نظراتهما التقت، وكأن الزمن عاد بهما إلى لحظة الوداع الأولى. لم يتكلما، فقط العيون تحدثت، وقلوبهما استكملت الحديث الذي لم يُنهَ منذ سنوات.
دعته للدخول، وكان المكان كما تركه في ذاكرته… دافئ، برائحة الياسمين الذي اعتادت أن تزرعه قرب النافذة. جلست قربه، بصمت حميمي، حتى قالت بهدوء:
– "ظننت أنك لن تعود."
– "ظننت أنني سأقدر على النسيان… لكنك تسكنين حتى أنفاسي، يا ليلى."
مدّ يده وأمسك بكفها، كان دافئًا، واهتزت يدها بين أصابعه، كأن شيئًا عاد للحياة فيها. اقترب منها، دون تسرّع، بنبض رجل اشتاق، وعينين لا تزالان تتعلّمان كيف تنظران لحب لم يمت.
همس في أذنها:
– "هل تأذنين لي أن أبدأ من حيث انتهينا؟"
أغلقت عينيها وأجابت بنعومة:
– "ابدأ… وكن كل البدايات."
في تلك الليلة، لم يكن بينهما سوى الصدق، والشوق، وحنين السنين. احتضنها كمن يحضن وطنًا غاب عنه طويلًا. كانت لمسته على كتفها اعترافًا، وكانت أنفاسه قرب عنقها وعدًا جديدًا بأن لا يرحل مجددًا.
لم تكن مجرد لحظة جسدية، بل طقوس لقاء الأرواح، حين يُمحى الزمان، ويصير الجسد لغة حب، بلا كلمات.
نامت في حضنه، لأول مرة… وهو يهمس لها:
– "من الآن فصاعدًا، كل لي
لة ستبدأ بكِ وتنتهي بكِ."
مرّت أسابيع على عودة فارس، وكان الحب بينه وبين ليلى ينمو كزهور الربيع بعد شتاءٍ طويل. أمضيا أيامًا لا تُنسى، يكتشفان بعضهما من جديد، كأن كل منهما كتابٌ أعيدت كتابته بلغة الشوق.
لكن الحب لا يكتمل دون امتحان، ولا تستقر القلوب دون بعض العواصف الصغيرة.
ذات مساء، عاد فارس من البلدة المجاورة بعد أن بدأ العمل في شركة محلية. كان متعبًا، لكنه مشتاق لها كعادته. دخل البيت، ولم يجدها. سأل والدتها، فقالت له:
– "راحت على السوق… مع سامر، ابن خالتها."
لم يكن الاسم غريبًا، لكنه لم يكن مريحًا. سامر… الرجل الذي كان يسمع عنه دائمًا في رسائل ليلى القديمة، الصديق القريب، الذي "لم يكن أكثر من أخ". لكن فارس، مثل كل عاشق، لم يُحب كلمة "أخ" من رجل آخر.
انتظرها بهدوء… ظاهرًا. لكنه كان يغلي من الداخل. دخلت بعد ساعة، ووجهها يضحك من شيء قاله سامر قبل أن يودّعها على الباب. نظرت إلى فارس، ورأت في عينيه سؤالًا.
قالت بابتسامة:
– "رجعت؟ كيف كان يومك؟"
لم يجب، فقط قال:
– "مع سامر كنتِ؟"
تغيرت نبرتها، شعرت بما خلف صوته من غيرة، وقالت:
– "أيوا… طمني، في شي؟"
– "ما في شي… بس ما كنت بعرف إنك مبسوطة معه لهالدرجة."
قالتها بحدّة: – "شو قصدك؟"
– "قصدي إني رجعت كرمالك، مشان ألاقيك بتضحكي مع رجال غيري؟!"
اشتعل الموقف، بين كبرياءه وكرامتها، بين غيرته التي لم يعرف كيف يخفيها، وبين غضبها من شكّه المفاجئ.
صمتت، ثم قالت له بنبرة مخنوقة:
– "كنت عم حاول أرجّع حياتي قبل ما ترجع، وما كنت بعرف إذا راح توفي بوعدك. هو كان جنبي… بس قلبي؟ ما أعطيتو لحدا غيرك."
اقترب منها، لكن يدها صدّته. قالت:
– "أنا مش لعبة إلك تغار وتغضب وقت ما بدّك. إذا ما بتثق فيي… ما فينا نكمّل."
شعر فارس بالبرد يضرب قلبه، أدرك أنه تجاوز حدوده. جلس بصمت، يحدّق بالأرض. ثم رفع عينيه وقال:
– "أنا آسف، بس الغيرة مش بيدي… فكرة إنك كنتِ تضحكي معه وجعِتني."
اقترب منها ببطء، ومدّ يده ولمس خدها بلطف:
– "أنا مش خايف من سامر… أنا خايف من فكرة إني أتأخر عنك يوم، وتنسي كيف كنت تحبيني."
نظرت إليه، ودمعة خفيفة انسابت من عينها. قالت:
– "أنا ما نسيت… أنا كل يوم كنت عم أعيش على ذاكرتك. بس رجوعك ما يعني ترجع تتحكم بقلبي… قلبي إلك، بس مش غصب."
وفي لحظة هدوء، اقترب منها، وضمّها لصدره كأن كل كلمات العالم لا تكفي لاعتذاره.
– "بكرا خلينا نروح نتمشى سوا… بعيد عن كل شي، حتى عن سامر."
ضحكت، وقالت بنعومة:
– "بكرا… بس بشرط."
– "شو هو؟"
– "تضحكني أكتر من سامر."
في صباح اليوم التالي، كانت الشمس تتسلل بخجل عبر نافذة بيت ليلى، بينما كان قلبها لا يزال عالقًا في تفاصيل الليلة الماضية. كلمات فارس، غيرته، عتابه، واعتذاره… كلّها كانت تدور في رأسها مثل أغنية تعرفها جيدًا لكنها لم تسمعها منذ زمن.
رنّ هاتفها، رسالة من فارس:
"أنا قدام البيت… في مكان حابب آخدك عليه. ما تأخّري، اليوم إلنا."
خرجت إليه بثوبٍ بسيط، وشعرٍ مفرود على كتفيها، لا يخبّئ شيئًا. كانت خطواتها خفيفة كأنها تسير نحو مصير كتب لها من أول نظرة.
ركبا السيارة، وبقي صامتًا أول الطريق، لكنه كان ينظر إليها بين كل لحظة وأخرى وكأن في عينيه شيء جديد لم تقرأه من قبل.
وصلوا إلى طرف الجبل، حيث يطلّ المكان على الوادي… هناك حيث كانا يلعبان وهما صغيران. نزل وأمسك يدها، ثم جلسا على صخرة كبيرة تطلّ على المشهد كله.
قال لها:
– "ليلى… البارح كنت غبي. خفت، وغار قلبي، ونسيت إني واثق فيك. بس الحقيقة؟ إني مش بس راجع كرمالك… راجع أكمّل حياتي فيك."
نظرت إليه، هذه المرة بلا دموع، فقط بشيء ناضج في عينيها، وقالت:
– "أنا كمان… كنت ناطرتك ترجع، بس مش ترجع متلك، ترجع رجل جديد… يعرف إنه الحب مش سيطرة، الحب مشاركة."
سحب من جيبه صندوقًا صغيرًا مخمليًا. فتحت عيناها بدهشة ناعمة، بينما فتح هو العلبة وظهر فيها خاتم بسيط، لكنه دافئ كشمس الجبل.
– "أنا ما جبتلك شي غالي، بس جبت وعد… وعد إني ما أرجع أجرحك بظني، وإنه يكون اسمك مرافق لاسمي من اليوم وطالع."
ارتبكت، ضحكت، خجلت… ثم مدت يدها وقالت بهمس:
– "ما بدي غير هالوعد… والباقي منبنيه سوا."
ألبسها الخاتم، ومعه لحظة صامتة، عميقة، لم تحتج كلمات. اقترب منها، ولمس خدها كما في الليلة الأولى… لكن هذه المرة، كان اللمس مختلفًا: لمس رجل قرر أن يحبّ بأنضج ما فيه، وامرأة قررت أن تُسامح بحب، لا بضعف.
مرّ الوقت، وانتهى اليوم تحت الغروب، وهما متكئين على بعض، يراقبان كيف تغيب الشمس… لا حزينة، بل كأنها تتركهما لحياة تبدأ الآن.
نهاية القصة
فارس لم يعد ذلك الشاب الحالم فقط، بل صار رجلًا يعرف كيف يمسك بيد حبيبته ويمشي بها في كل المواسم، حتى لو اشتدت العواصف.
وليلى، لم تعد تلك التي تنتظر… بل صارت من تختار، وتسامح، وتُعطي حبًا لا يشبه أحدًا.