عمر: محامٍ شاب يتولى قضية غامضة تتعلق بجريمة قتل لرجل أعمال شهير. مع تعمقه في القضية، يجد نفسه في مواجهة تهديدات غامضة وظواهر غير منطقية، تجعله يتساءل عما إذا كان يبحث عن قاتل بشري... أم شيء آخر تمامًا.
البداية
كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل عندما أغلق "عمر" مكتبه أخيرًا. كان اليوم طويلًا ومرهقًا، فقد أمضى الساعات الماضية يراجع ملفات قضية معقدة تتعلق بمقتل رجل الأعمال الشهير "خالد السيوفي"، والتي أصبحت حديث الصحف في الأيام الأخيرة.
خرج إلى الشارع، واستنشق الهواء البارد بينما أشعل سيجارة. كان شارع "القصر العتيق" شبه مهجور، المصابيح الخافتة تلقي ظلالًا طويلة، بينما أصوات الرياح تعزف لحنًا جنائزيًا بين الأبنية القديمة.
لم يكن "عمر" من النوع الذي يخاف بسهولة، لكن هذه الليلة حملت إحساسًا غريبًا، كأن الظلام يحمل أسرارًا غير معلنة.
بينما كان يسير نحو سيارته، لمح من زاوية عينه رجلاً يقف تحت أحد أعمدة الإنارة. كان يرتدي معطفًا داكنًا وقبعة تخفي ملامحه. لم يكن هناك سبب محدد للشعور بالخوف منه، لكنه كان يشع بطاقة غريبة جعلت "عمر" يتوقف للحظة.
عمر (بهمس لنفسه): مجرد عابر طريق... لا داعي للقلق.
لكنه عندما استدار مجددًا... كان الرجل قد اختفى.
عاد "عمر" إلى منزله، ألقى بمعطفه على الأريكة، وسكب لنفسه كوبًا من الويسكي ليهدئ أعصابه. جلس على المكتب، وأخرج ملف القضية من حقيبته، لكن شيئًا غريبًا لفت انتباهه...
كان هناك ظرف أسود على المكتب.
أخذ الظرف ببطء، فتحه بحذر، وسحب الورقة التي بدا أنها كُتبت بحبر أحمر:
"ابتعد عن القضية... أو ستلقى مصير خالد."
شعر بقشعريرة تسري في جسده، لكنه لم يكن من النوع الذي يستسلم للتهديدات بسهولة. أمسك هاتفه واتصل بصديقه المحقق "سالم"، المسؤول عن التحقيق في مقتل "خالد".
عمر (بحدة): سالم، هل ما زلت مستيقظًا؟
سالم (بتعب): لا أحد ينام في هذه القضية، ماذا هناك؟
عمر: لقد استلمت رسالة تهديد تطلب مني الابتعاد. هذا يعني أنني اقتربت من شيء لا يريدونني أن أكتشفه.
سالم (بصوت قلق): عمر... هناك شيء يجب أن تعرفه. لدينا شاهد جديد يقول إنه رأى خالد في الليلة التي قُتل فيها، ولكن الغريب أنه رآه بعد ساعة كاملة من وقت الوفاة المسجل في تقرير الطب الشرعي.
عمر (بصوت مرتجف): مستحيل... هل تقول إن خالد كان حيًا بعد مقتله؟
سالم: أو شيء آخر كان يتظاهر بأنه خالد.
في صباح اليوم التالي، توجه "عمر" إلى السجن لزيارة "هيثم السيوفي"، شقيق القتيل والمشتبه به الرئيسي.
جلس "هيثم" أمامه في غرفة التحقيقات، عينيه غارقتان في الظلام وكأنه لم ينم منذ أيام.
عمر: هيثم، أخبرني الحقيقة، هل قتلت شقيقك؟
هيثم (يرتجف): لا... لكني رأيته، بعد موته.
عمر (متوترًا): كيف ذلك؟
هيثم (بصوت مبحوح): بعد أن مات، رأيته يقف عند باب غرفتي في منزلنا، عينيه كانتا فارغتين، وكأنه لم يكن خالد... بل شيء آخر يرتدي جسده.
تراجع "عمر" في مقعده. لم يكن من النوع الذي يؤمن بالخرافات، لكنه رأى الخوف الحقيقي في عيني "هيثم".
عمر: هل كان هناك شيء غريب آخر قبل وفاته؟
هيثم: قبل أيام من مقتله، كان خالد يقول إنه يشعر بأنه مراقب. قال إنه يرى ظلًا يتحرك في المنزل، وعندما ينظر إليه، يختفي. ظننا أنه يتخيل... لكنه كان محقًا.
عاد "عمر" إلى مكتب المحاماة الخاص به، ليجد أن بابه مفتوح رغم أنه متأكد من أنه أغلقه.
دخل بحذر، قلبه ينبض بسرعة. في الداخل، رأى الظلال تتحرك، وعندما أشعل الضوء، تجمد في مكانه.
كان "خالد السيوفي" يجلس على كرسي مكتبه، وجهه شاحب وابتسامته مشوهة.
عمر (مرتعبًا): مستحيل... أنت ميت!
خالد (بصوت هادئ لكنه مرعب): هل أنت متأكد؟
وقف خالد ببطء، وعيناه كانتا فارغتين تمامًا كأنهما حفرتان في الظلام. تقدم نحو "عمر"، الذي شعر ببرودة مرعبة تسري في الهواء.
عمر (بصوت مرتجف): من أنت؟
خالد (يبتسم ابتسامة مرعبة): أنا الشيء الذي حاولت إيقاظه... وأنت كنت فضوليًا أكثر مما ينبغي.
في تلك اللحظة، انطفأت الأنوار، وساد الظلام الدامس.
استيقظ "عمر" في الصباح، ملقى على أرض مكتبه، لكنه لم يكن وحيدًا.
على الطاولة، كان هناك ظرف أسود جديد. فتحه بأصابع مرتعشة، وقرأ الرسالة:
"لقد منحناك فرصة... هذه المرة فقط."
جلس "عمر" في مكتبه، يحدق في الرسالة السوداء بين يديه، قلبه ينبض بسرعة وهو يقرأ الكلمات المكتوبة بالحبر الأحمر مره اخري:
"لقد منحناك فرصة... هذه المرة فقط."
رفع رأسه ونظر في المرآة الموجودة على الجدار المقابل. هناك، رأى الظل مجددًا. تلك الابتسامة المشوهة التي ظهرت على وجه "خالد" في الليلة الماضية كانت واضحة الآن، تنعكس في زجاج المرآة، رغم أنه عندما التفت... لم يكن هناك أحد.
أغمض عينيه للحظة، محاولًا استيعاب ما يحدث. هل كان هذا كله مجرد هلوسة؟ أم أن هناك شيئًا أكثر رعبًا خلف القضية التي كان يحقق فيها؟
رنّ هاتفه فجأة، نظر إلى الشاشة، كان "سالم".
سالم (بصوت متوتر): عمر... هناك تطورات جديدة في القضية. نحن بحاجة إلى التحدث فورًا.
عمر (بصوت متعب): أنا في طريقي إليك.
وصل "عمر" إلى مركز الشرطة، وهناك وجد "سالم" يجلس خلف مكتبه، وجهه شاحب وكأن النوم قد هجره منذ أيام.
عمر (بفضول وقلق): ماذا وجدت؟
سالم (يضع ملفًا على الطاولة): لقد حصلنا على تسجيلات جديدة من كاميرات المراقبة حول منزل خالد في الليلة التي قُتل فيها. يجب أن ترى هذا بنفسك.
أدار الشاشة، وبدأ الفيديو.
ظهرت صورة "خالد" وهو يدخل منزله في الساعة التاسعة مساءً. بعد عشر دقائق، ظهرت شخصية أخرى في اللقطة، لكنها لم تكن واضحة. كان شخصًا طويل القامة، يرتدي معطفًا أسود، لكن الغريب أن ظله كان يبدو وكأنه يتحرك بشكل غير طبيعي، كأن جسده لم يكن متماسكًا تمامًا.
ثم، فجأة، توقفت الكاميرا عن التسجيل لثلاث دقائق، وعندما عادت الصورة... كان خالد ممددًا على الأرض، دون أي أثر للشخص الذي دخل قبله.
عمر (بصوت خافت): ثلاث دقائق فقط... هذا كل ما احتاجه القاتل؟
سالم (ينظر إلى عمر بجدية): هناك شيء آخر... الطب الشرعي أكد أن خالد لم يُقتل برصاصة، كما كنا نعتقد. الجثة لم تُظهر أي آثار واضحة للقتل، لكن... كان هناك شيء غريب.
عمر (بتوتر): ماذا؟
سالم (يخفض صوته): قلبه كان مفقودًا. لم يتم العثور عليه داخل الجثة.
بدأت القطع تتجمع في عقل "عمر"، لكن شيئًا ما كان مفقودًا. قرر الذهاب إلى منزل "خالد" بنفسه، لمعرفة ما إذا كان هناك أي دليل لم تلاحظه الشرطة.
عندما وصل، كان المنزل مظلمًا، نوافذه مغلقة وكأن الحياة قد هجرته. دفع الباب ببطء، فصرّ بصوت عالٍ جعله يشعر بقشعريرة.
عمر (يهمس لنفسه): فقط تفقد المكان، واخرج بسرعة.
بدأ يتفحص الغرف واحدة تلو الأخرى، حتى وصل إلى غرفة المكتب. كان المكان مقلوبًا رأسًا على عقب، كأن أحدهم كان يبحث عن شيء معين.
على الطاولة، كان هناك دفتر قديم مغطى بالغبار. فتحه ببطء، ووجد صفحات مليئة بملاحظات كتبها "خالد" قبل وفاته.
"أشعر أن هناك من يراقبني."
"كلما نظرت في المرآة، أرى شخصًا آخر."
"الظلال تتحرك وحدها."
"إذا اختفيت... لا تثق بأي شيء تراه."
شعر "عمر" بقشعريرة تسري في جسده. فجأة، سمع صوت خطوات خلفه. التفت بسرعة، لكنه لم يرَ شيئًا.
لكنه شعر بشيء آخر... الهواء أصبح باردًا بشكل مخيف.
ثم، سمع الصوت.
صوت همس خافت: "لقد حذّرناك، لكنك لم تستمع."
استدار بسرعة، وإذا بشيء يخرج من الظلال. كان يشبه "خالد"، لكن ملامحه كانت مشوهة، وعيناه سوداء تمامًا.
عمر (بصوت مرتجف): من... من أنت؟
الكيان (بصوت متداخل كأنه أكثر من صوت في آنٍ واحد): أنا الحقيقة التي حاولت كشفها... وأنا الظل الذي سيبتلعك.
تراجع "عمر"، لكنه شعر بيد باردة تمسك بمعصمه. حاول المقاومة، لكن قوته كانت تفوق الوصف.
ثم، في لحظة، شعر وكأنه يسقط في فراغ مظلم لا نهاية له.
عندما استعاد وعيه، كان مستلقيًا على أرضية مكتبه، والساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، تمامًا كما في الليلة السابقة.
هل كان كل هذا مجرد حلم؟ هل تخيل كل شيء؟
ثم نظر إلى الطاولة، فوجد الدفتر القديم هناك... بنفس الصفحات التي قرأها في المنزل.
قرر "عمر" إغلاق القضية. لم يكن مستعدًا لمواجهة شيء لا يفهمه، شيء لا يمكنه تفسيره بالقانون أو المنطق.
لكن المشكلة أنه لم يكن هو الوحيد الذي قرر إنهاء الأمر.
في الليلة التالية، بينما كان يغلق مكتبه، نظر إلى المرآة مرة أخرى.
هذه المرة، لم يكن يرى انعكاسه فقط.
بل كان هناك شخص آخر يقف خلفه، يبتسم نفس الابتسامة المشوهة.
ثم همس له:
"الليل لا يعرف الرحمة... وأنت أصبحت جزءًا منه الآن."
انطفأت الأنوار.
وصار "عمر" جزءًا من الظلال.
استيقظ "عمر" على أرضية مكتبه، عيناه تحملقان في السقف كأنهما تبحثان عن إجابة. هل كان كل ما مر به مجرد وهم؟ كابوس؟ أم أن الظلال قد ابتلعته حقًا؟
حاول النهوض، لكن جسده كان ثقيلاً، وكأن شيئًا غير مرئي يضغط عليه. التقط هاتفه، فوجد عشرات المكالمات الفائتة من "سالم". كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحًا، لكن الشعور الذي انتابه لم يكن مرتبطًا بمرور الوقت، بل بشيء أعمق... وكأن الزمن نفسه لم يعد يسير كما اعتاد.
رنّ الهاتف فجأة، كانت الشاشة تعرض رقم "سالم".
عمر (بصوت مرتجف): سالم...
سالم (لاهثًا): عمر! أين كنت؟ أنا أمام منزلك منذ ساعة، ولا أحد يجيب!
نهض "عمر" ببطء، مشى إلى النافذة، لكنه لم يرَ أحدًا في الخارج. الشارع كان مهجورًا، صامتًا بشكل غير طبيعي.
عمر (بهمس): سالم... أنا في مكتبي، ليس في المنزل.
ساد الصمت للحظات، ثم قال "سالم" بصوت متوتر:
سالم: عمر، مكتبك كان مظلمًا طوال الليل، وعندما دخلنا قبل قليل... لم يكن هناك أحد.
وقف "عمر" في منتصف مكتبه، ينظر حوله. كل شيء بدا مألوفًا، لكنه في ذات الوقت... غريب. كأن المكان يحمل طبقة غير مرئية من شيء آخر، شيء غير بشري.
ثم لمح شيئًا في المرآة المعلقة على الجدار. لم يكن انعكاسه طبيعيًا. كان يقف هناك، لكن عيناه لم تكونا كما اعتادهما... كانتا أكثر قتامة، وكأن الظلام بدأ يلتهمه من الداخل.
أدار وجهه بعيدًا عن المرآة، لكن صوتًا باردًا همس خلفه:
الصوت (بهدوء مخيف): لا تتجاهل ما أصبحت عليه، عمر... أنت الآن واحد منا.
شعر "عمر" بقلبه يتوقف للحظة. استدار بسرعة، لكن المكتب كان فارغًا.
حاول "عمر" استعادة تركيزه، فأخذ الملفات التي كان يعمل عليها قبل أن يبدأ هذا الكابوس، وذهب لمقابلة "سالم". عندما دخل مركز الشرطة، لاحظ أن الجميع ينظر إليه بطريقة غريبة، كأنه شخص عائد من الموت.
سالم (يحدق فيه بقلق): هل أنت بخير؟ تبدو... مختلفًا.
عمر (بجفاف): فقط دعنا ننهي هذه القضية، سالم.
جلس الاثنان أمام طاولة التحقيق، وفتح "عمر" الملف القديم لجريمة "خالد السيوفي". هناك شيء ما كان يربط هذه الجرائم، شيء لم يلحظه من قبل.
ثم وجد ملاحظة كتبها "خالد" في دفتره قبل مقتله بأيام قليلة:
"عندما نظرت في المرآة، رأيت شخصًا آخر... لكنه لم يكن أنا."
رفع "عمر" عينيه ببطء، ونظر إلى المرآة الصغيرة في غرفة التحقيق.
انعكاسه كان يبتسم.
لكن عمر لم يكن يبتسم.
ارتفع صوت ضحكة خافتة في الغرفة، لم تكن قادمة من "عمر" أو "سالم"
. ثم انطفأت الأنوار.
كانت الغرفة مظلمة تمامًا. لا ضوء، لا صوت. لا شيء سوى شعور غريب كان يضغط على صدر "عمر". في الظلام، بدا كل شيء غير واقعي، وكأن الزمن قد توقف، أو ربما هو نفسه من أصبح جزءًا من الظلال التي طالما كان يهرب منها.
فتح عينيه بصعوبة، ليكتشف أنه لا يزال في مركز الشرطة. لكن المكان كان خاليًا، وكل شيء بدا كما لو أن الحياة قد توقفت. جلس على كرسيه ببطء، ووجد نفسه لا يستطيع الحركة، وكأن قوته قد اختفت، أو ربما هو أصبح مجرد جزء من هذا الكابوس المستمر.
ثم، سمع الصوت.
الصوت (بهمس): أنت هنا لأنك اخترت أن تكون هنا، عمر.
استدار ببطء، وكان يراه في المرآة. ليس "سالم"، ولا أحد آخر. فقط الظل الذي أصبح يطارد خطواته في كل مكان.
في اللحظة التي اقترب فيها "عمر" من المرآة، بدأ الظل يظهر بوضوح. كان يشبهه تمامًا، لكن عينيه كانت مليئة بالظلام. تلك العيون التي كان يراها في كل مكان: في مكتبته، في شوارع المدينة، وحتى في قلبه.
عمر (بصوت مرتجف): من أنت؟
الظل (بصوت مشوه): أنا ما أصبحت عليه. كنت في الظلام طويلًا، حتى بدأت ألتهمك.
ابتسم "عمر"، لكن ابتسامته كانت باردة، غير إنسانية، كما لو أنه اقتنع أخيرًا بما حدث.
عمر: إذًا، أنا لم أعد "عمر" بعد الآن، صحيح؟
الظل (بهدوء): لا، أنت مجرد جزء من هذا العالم. جزء من الظلام.
ومع تلك الكلمات، شعر "عمر" بشيء ثقيل يتحرك داخله. كان يحاول الهروب، لكنه اكتشف أن لا مفر. الظلام أصبح جزءًا منه، كما أصبح هو جزءًا منه.
بدأ المكان يتلاشى من حوله. كانت الأنوار تومض وتغيب، والأصوات تتداخل في ضوضاء متسارعة. شعر وكأن جسده يتآكل شيئًا فشيئًا، كما لو أن روحه كانت تنفصل عن جسده. كان جزءًا من شيء أكبر، أكبر من أن يُفهم.
وفي اللحظة التي اختفى فيها تمامًا، سمع همسات تتلاشى في الأفق:
الهمسات (تتكرر): "الليل لا يعرف الرحمة... وأنت الآن جزء منه."
"عمر" اختفى. لا أحد يعرف أين اختفى. لكن قصته، مثل القصص السابقة لعائلة "السيوفي"، ستظل تردد في أذهان من يعرفون الحقيقة.
في الليل، عندما ينظر أحدهم إلى المرآة، ربما يرى شخصًا آخر يبتسم من خلفه. ولكن، لا يمكن الهروب من الظلام، لأن الظلام... دائمًا ما يعرف طريقه.
وهكذا، انتهت رحلة "عمر"، لكن الظل لا يتوقف.
النهاية
البداية
كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل عندما أغلق "عمر" مكتبه أخيرًا. كان اليوم طويلًا ومرهقًا، فقد أمضى الساعات الماضية يراجع ملفات قضية معقدة تتعلق بمقتل رجل الأعمال الشهير "خالد السيوفي"، والتي أصبحت حديث الصحف في الأيام الأخيرة.
خرج إلى الشارع، واستنشق الهواء البارد بينما أشعل سيجارة. كان شارع "القصر العتيق" شبه مهجور، المصابيح الخافتة تلقي ظلالًا طويلة، بينما أصوات الرياح تعزف لحنًا جنائزيًا بين الأبنية القديمة.
لم يكن "عمر" من النوع الذي يخاف بسهولة، لكن هذه الليلة حملت إحساسًا غريبًا، كأن الظلام يحمل أسرارًا غير معلنة.
بينما كان يسير نحو سيارته، لمح من زاوية عينه رجلاً يقف تحت أحد أعمدة الإنارة. كان يرتدي معطفًا داكنًا وقبعة تخفي ملامحه. لم يكن هناك سبب محدد للشعور بالخوف منه، لكنه كان يشع بطاقة غريبة جعلت "عمر" يتوقف للحظة.
عمر (بهمس لنفسه): مجرد عابر طريق... لا داعي للقلق.
لكنه عندما استدار مجددًا... كان الرجل قد اختفى.
عاد "عمر" إلى منزله، ألقى بمعطفه على الأريكة، وسكب لنفسه كوبًا من الويسكي ليهدئ أعصابه. جلس على المكتب، وأخرج ملف القضية من حقيبته، لكن شيئًا غريبًا لفت انتباهه...
كان هناك ظرف أسود على المكتب.
أخذ الظرف ببطء، فتحه بحذر، وسحب الورقة التي بدا أنها كُتبت بحبر أحمر:
"ابتعد عن القضية... أو ستلقى مصير خالد."
شعر بقشعريرة تسري في جسده، لكنه لم يكن من النوع الذي يستسلم للتهديدات بسهولة. أمسك هاتفه واتصل بصديقه المحقق "سالم"، المسؤول عن التحقيق في مقتل "خالد".
عمر (بحدة): سالم، هل ما زلت مستيقظًا؟
سالم (بتعب): لا أحد ينام في هذه القضية، ماذا هناك؟
عمر: لقد استلمت رسالة تهديد تطلب مني الابتعاد. هذا يعني أنني اقتربت من شيء لا يريدونني أن أكتشفه.
سالم (بصوت قلق): عمر... هناك شيء يجب أن تعرفه. لدينا شاهد جديد يقول إنه رأى خالد في الليلة التي قُتل فيها، ولكن الغريب أنه رآه بعد ساعة كاملة من وقت الوفاة المسجل في تقرير الطب الشرعي.
عمر (بصوت مرتجف): مستحيل... هل تقول إن خالد كان حيًا بعد مقتله؟
سالم: أو شيء آخر كان يتظاهر بأنه خالد.
في صباح اليوم التالي، توجه "عمر" إلى السجن لزيارة "هيثم السيوفي"، شقيق القتيل والمشتبه به الرئيسي.
جلس "هيثم" أمامه في غرفة التحقيقات، عينيه غارقتان في الظلام وكأنه لم ينم منذ أيام.
عمر: هيثم، أخبرني الحقيقة، هل قتلت شقيقك؟
هيثم (يرتجف): لا... لكني رأيته، بعد موته.
عمر (متوترًا): كيف ذلك؟
هيثم (بصوت مبحوح): بعد أن مات، رأيته يقف عند باب غرفتي في منزلنا، عينيه كانتا فارغتين، وكأنه لم يكن خالد... بل شيء آخر يرتدي جسده.
تراجع "عمر" في مقعده. لم يكن من النوع الذي يؤمن بالخرافات، لكنه رأى الخوف الحقيقي في عيني "هيثم".
عمر: هل كان هناك شيء غريب آخر قبل وفاته؟
هيثم: قبل أيام من مقتله، كان خالد يقول إنه يشعر بأنه مراقب. قال إنه يرى ظلًا يتحرك في المنزل، وعندما ينظر إليه، يختفي. ظننا أنه يتخيل... لكنه كان محقًا.
عاد "عمر" إلى مكتب المحاماة الخاص به، ليجد أن بابه مفتوح رغم أنه متأكد من أنه أغلقه.
دخل بحذر، قلبه ينبض بسرعة. في الداخل، رأى الظلال تتحرك، وعندما أشعل الضوء، تجمد في مكانه.
كان "خالد السيوفي" يجلس على كرسي مكتبه، وجهه شاحب وابتسامته مشوهة.
عمر (مرتعبًا): مستحيل... أنت ميت!
خالد (بصوت هادئ لكنه مرعب): هل أنت متأكد؟
وقف خالد ببطء، وعيناه كانتا فارغتين تمامًا كأنهما حفرتان في الظلام. تقدم نحو "عمر"، الذي شعر ببرودة مرعبة تسري في الهواء.
عمر (بصوت مرتجف): من أنت؟
خالد (يبتسم ابتسامة مرعبة): أنا الشيء الذي حاولت إيقاظه... وأنت كنت فضوليًا أكثر مما ينبغي.
في تلك اللحظة، انطفأت الأنوار، وساد الظلام الدامس.
استيقظ "عمر" في الصباح، ملقى على أرض مكتبه، لكنه لم يكن وحيدًا.
على الطاولة، كان هناك ظرف أسود جديد. فتحه بأصابع مرتعشة، وقرأ الرسالة:
"لقد منحناك فرصة... هذه المرة فقط."
جلس "عمر" في مكتبه، يحدق في الرسالة السوداء بين يديه، قلبه ينبض بسرعة وهو يقرأ الكلمات المكتوبة بالحبر الأحمر مره اخري:
"لقد منحناك فرصة... هذه المرة فقط."
رفع رأسه ونظر في المرآة الموجودة على الجدار المقابل. هناك، رأى الظل مجددًا. تلك الابتسامة المشوهة التي ظهرت على وجه "خالد" في الليلة الماضية كانت واضحة الآن، تنعكس في زجاج المرآة، رغم أنه عندما التفت... لم يكن هناك أحد.
أغمض عينيه للحظة، محاولًا استيعاب ما يحدث. هل كان هذا كله مجرد هلوسة؟ أم أن هناك شيئًا أكثر رعبًا خلف القضية التي كان يحقق فيها؟
رنّ هاتفه فجأة، نظر إلى الشاشة، كان "سالم".
سالم (بصوت متوتر): عمر... هناك تطورات جديدة في القضية. نحن بحاجة إلى التحدث فورًا.
عمر (بصوت متعب): أنا في طريقي إليك.
وصل "عمر" إلى مركز الشرطة، وهناك وجد "سالم" يجلس خلف مكتبه، وجهه شاحب وكأن النوم قد هجره منذ أيام.
عمر (بفضول وقلق): ماذا وجدت؟
سالم (يضع ملفًا على الطاولة): لقد حصلنا على تسجيلات جديدة من كاميرات المراقبة حول منزل خالد في الليلة التي قُتل فيها. يجب أن ترى هذا بنفسك.
أدار الشاشة، وبدأ الفيديو.
ظهرت صورة "خالد" وهو يدخل منزله في الساعة التاسعة مساءً. بعد عشر دقائق، ظهرت شخصية أخرى في اللقطة، لكنها لم تكن واضحة. كان شخصًا طويل القامة، يرتدي معطفًا أسود، لكن الغريب أن ظله كان يبدو وكأنه يتحرك بشكل غير طبيعي، كأن جسده لم يكن متماسكًا تمامًا.
ثم، فجأة، توقفت الكاميرا عن التسجيل لثلاث دقائق، وعندما عادت الصورة... كان خالد ممددًا على الأرض، دون أي أثر للشخص الذي دخل قبله.
عمر (بصوت خافت): ثلاث دقائق فقط... هذا كل ما احتاجه القاتل؟
سالم (ينظر إلى عمر بجدية): هناك شيء آخر... الطب الشرعي أكد أن خالد لم يُقتل برصاصة، كما كنا نعتقد. الجثة لم تُظهر أي آثار واضحة للقتل، لكن... كان هناك شيء غريب.
عمر (بتوتر): ماذا؟
سالم (يخفض صوته): قلبه كان مفقودًا. لم يتم العثور عليه داخل الجثة.
بدأت القطع تتجمع في عقل "عمر"، لكن شيئًا ما كان مفقودًا. قرر الذهاب إلى منزل "خالد" بنفسه، لمعرفة ما إذا كان هناك أي دليل لم تلاحظه الشرطة.
عندما وصل، كان المنزل مظلمًا، نوافذه مغلقة وكأن الحياة قد هجرته. دفع الباب ببطء، فصرّ بصوت عالٍ جعله يشعر بقشعريرة.
عمر (يهمس لنفسه): فقط تفقد المكان، واخرج بسرعة.
بدأ يتفحص الغرف واحدة تلو الأخرى، حتى وصل إلى غرفة المكتب. كان المكان مقلوبًا رأسًا على عقب، كأن أحدهم كان يبحث عن شيء معين.
على الطاولة، كان هناك دفتر قديم مغطى بالغبار. فتحه ببطء، ووجد صفحات مليئة بملاحظات كتبها "خالد" قبل وفاته.
"أشعر أن هناك من يراقبني."
"كلما نظرت في المرآة، أرى شخصًا آخر."
"الظلال تتحرك وحدها."
"إذا اختفيت... لا تثق بأي شيء تراه."
شعر "عمر" بقشعريرة تسري في جسده. فجأة، سمع صوت خطوات خلفه. التفت بسرعة، لكنه لم يرَ شيئًا.
لكنه شعر بشيء آخر... الهواء أصبح باردًا بشكل مخيف.
ثم، سمع الصوت.
صوت همس خافت: "لقد حذّرناك، لكنك لم تستمع."
استدار بسرعة، وإذا بشيء يخرج من الظلال. كان يشبه "خالد"، لكن ملامحه كانت مشوهة، وعيناه سوداء تمامًا.
عمر (بصوت مرتجف): من... من أنت؟
الكيان (بصوت متداخل كأنه أكثر من صوت في آنٍ واحد): أنا الحقيقة التي حاولت كشفها... وأنا الظل الذي سيبتلعك.
تراجع "عمر"، لكنه شعر بيد باردة تمسك بمعصمه. حاول المقاومة، لكن قوته كانت تفوق الوصف.
ثم، في لحظة، شعر وكأنه يسقط في فراغ مظلم لا نهاية له.
عندما استعاد وعيه، كان مستلقيًا على أرضية مكتبه، والساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، تمامًا كما في الليلة السابقة.
هل كان كل هذا مجرد حلم؟ هل تخيل كل شيء؟
ثم نظر إلى الطاولة، فوجد الدفتر القديم هناك... بنفس الصفحات التي قرأها في المنزل.
قرر "عمر" إغلاق القضية. لم يكن مستعدًا لمواجهة شيء لا يفهمه، شيء لا يمكنه تفسيره بالقانون أو المنطق.
لكن المشكلة أنه لم يكن هو الوحيد الذي قرر إنهاء الأمر.
في الليلة التالية، بينما كان يغلق مكتبه، نظر إلى المرآة مرة أخرى.
هذه المرة، لم يكن يرى انعكاسه فقط.
بل كان هناك شخص آخر يقف خلفه، يبتسم نفس الابتسامة المشوهة.
ثم همس له:
"الليل لا يعرف الرحمة... وأنت أصبحت جزءًا منه الآن."
انطفأت الأنوار.
وصار "عمر" جزءًا من الظلال.
استيقظ "عمر" على أرضية مكتبه، عيناه تحملقان في السقف كأنهما تبحثان عن إجابة. هل كان كل ما مر به مجرد وهم؟ كابوس؟ أم أن الظلال قد ابتلعته حقًا؟
حاول النهوض، لكن جسده كان ثقيلاً، وكأن شيئًا غير مرئي يضغط عليه. التقط هاتفه، فوجد عشرات المكالمات الفائتة من "سالم". كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحًا، لكن الشعور الذي انتابه لم يكن مرتبطًا بمرور الوقت، بل بشيء أعمق... وكأن الزمن نفسه لم يعد يسير كما اعتاد.
رنّ الهاتف فجأة، كانت الشاشة تعرض رقم "سالم".
عمر (بصوت مرتجف): سالم...
سالم (لاهثًا): عمر! أين كنت؟ أنا أمام منزلك منذ ساعة، ولا أحد يجيب!
نهض "عمر" ببطء، مشى إلى النافذة، لكنه لم يرَ أحدًا في الخارج. الشارع كان مهجورًا، صامتًا بشكل غير طبيعي.
عمر (بهمس): سالم... أنا في مكتبي، ليس في المنزل.
ساد الصمت للحظات، ثم قال "سالم" بصوت متوتر:
سالم: عمر، مكتبك كان مظلمًا طوال الليل، وعندما دخلنا قبل قليل... لم يكن هناك أحد.
وقف "عمر" في منتصف مكتبه، ينظر حوله. كل شيء بدا مألوفًا، لكنه في ذات الوقت... غريب. كأن المكان يحمل طبقة غير مرئية من شيء آخر، شيء غير بشري.
ثم لمح شيئًا في المرآة المعلقة على الجدار. لم يكن انعكاسه طبيعيًا. كان يقف هناك، لكن عيناه لم تكونا كما اعتادهما... كانتا أكثر قتامة، وكأن الظلام بدأ يلتهمه من الداخل.
أدار وجهه بعيدًا عن المرآة، لكن صوتًا باردًا همس خلفه:
الصوت (بهدوء مخيف): لا تتجاهل ما أصبحت عليه، عمر... أنت الآن واحد منا.
شعر "عمر" بقلبه يتوقف للحظة. استدار بسرعة، لكن المكتب كان فارغًا.
حاول "عمر" استعادة تركيزه، فأخذ الملفات التي كان يعمل عليها قبل أن يبدأ هذا الكابوس، وذهب لمقابلة "سالم". عندما دخل مركز الشرطة، لاحظ أن الجميع ينظر إليه بطريقة غريبة، كأنه شخص عائد من الموت.
سالم (يحدق فيه بقلق): هل أنت بخير؟ تبدو... مختلفًا.
عمر (بجفاف): فقط دعنا ننهي هذه القضية، سالم.
جلس الاثنان أمام طاولة التحقيق، وفتح "عمر" الملف القديم لجريمة "خالد السيوفي". هناك شيء ما كان يربط هذه الجرائم، شيء لم يلحظه من قبل.
ثم وجد ملاحظة كتبها "خالد" في دفتره قبل مقتله بأيام قليلة:
"عندما نظرت في المرآة، رأيت شخصًا آخر... لكنه لم يكن أنا."
رفع "عمر" عينيه ببطء، ونظر إلى المرآة الصغيرة في غرفة التحقيق.
انعكاسه كان يبتسم.
لكن عمر لم يكن يبتسم.
ارتفع صوت ضحكة خافتة في الغرفة، لم تكن قادمة من "عمر" أو "سالم"
. ثم انطفأت الأنوار.
كانت الغرفة مظلمة تمامًا. لا ضوء، لا صوت. لا شيء سوى شعور غريب كان يضغط على صدر "عمر". في الظلام، بدا كل شيء غير واقعي، وكأن الزمن قد توقف، أو ربما هو نفسه من أصبح جزءًا من الظلال التي طالما كان يهرب منها.
فتح عينيه بصعوبة، ليكتشف أنه لا يزال في مركز الشرطة. لكن المكان كان خاليًا، وكل شيء بدا كما لو أن الحياة قد توقفت. جلس على كرسيه ببطء، ووجد نفسه لا يستطيع الحركة، وكأن قوته قد اختفت، أو ربما هو أصبح مجرد جزء من هذا الكابوس المستمر.
ثم، سمع الصوت.
الصوت (بهمس): أنت هنا لأنك اخترت أن تكون هنا، عمر.
استدار ببطء، وكان يراه في المرآة. ليس "سالم"، ولا أحد آخر. فقط الظل الذي أصبح يطارد خطواته في كل مكان.
في اللحظة التي اقترب فيها "عمر" من المرآة، بدأ الظل يظهر بوضوح. كان يشبهه تمامًا، لكن عينيه كانت مليئة بالظلام. تلك العيون التي كان يراها في كل مكان: في مكتبته، في شوارع المدينة، وحتى في قلبه.
عمر (بصوت مرتجف): من أنت؟
الظل (بصوت مشوه): أنا ما أصبحت عليه. كنت في الظلام طويلًا، حتى بدأت ألتهمك.
ابتسم "عمر"، لكن ابتسامته كانت باردة، غير إنسانية، كما لو أنه اقتنع أخيرًا بما حدث.
عمر: إذًا، أنا لم أعد "عمر" بعد الآن، صحيح؟
الظل (بهدوء): لا، أنت مجرد جزء من هذا العالم. جزء من الظلام.
ومع تلك الكلمات، شعر "عمر" بشيء ثقيل يتحرك داخله. كان يحاول الهروب، لكنه اكتشف أن لا مفر. الظلام أصبح جزءًا منه، كما أصبح هو جزءًا منه.
بدأ المكان يتلاشى من حوله. كانت الأنوار تومض وتغيب، والأصوات تتداخل في ضوضاء متسارعة. شعر وكأن جسده يتآكل شيئًا فشيئًا، كما لو أن روحه كانت تنفصل عن جسده. كان جزءًا من شيء أكبر، أكبر من أن يُفهم.
وفي اللحظة التي اختفى فيها تمامًا، سمع همسات تتلاشى في الأفق:
الهمسات (تتكرر): "الليل لا يعرف الرحمة... وأنت الآن جزء منه."
"عمر" اختفى. لا أحد يعرف أين اختفى. لكن قصته، مثل القصص السابقة لعائلة "السيوفي"، ستظل تردد في أذهان من يعرفون الحقيقة.
في الليل، عندما ينظر أحدهم إلى المرآة، ربما يرى شخصًا آخر يبتسم من خلفه. ولكن، لا يمكن الهروب من الظلام، لأن الظلام... دائمًا ما يعرف طريقه.
وهكذا، انتهت رحلة "عمر"، لكن الظل لا يتوقف.
النهاية