تبدأ القصة في إحدى القرى الساحلية الصغيرة، قرية هادئة مطلّة على البحر المتوسط، لا يتجاوز عدد سكانها بضع مئات طوال السنة. بيوتها متلاصقة، أغلبها مبنية على الطراز القديم، شوارعها ضيّقة، تعبق برائحة البحر والخبز الطازج من الأفران المحلية. لكن الأوضاع تتغير تمامًا في فصل الصيف، إذ تتحوّل إلى وجهة سياحية مفضلة للعائلات. تمتلئ الأرصفة بالمصطافين، وتصدح ضحكات الأطفال من الشاطئ، وتنتشر عربات الذرة والآيس كريم على طول الكورنيش.
ومن حسن حظي أن والدي يملك مطعمًا صغيرًا مطلًا على البحر، نوافذه مفتوحة طوال اليوم ليدخل نسيم البحر وينعش الجو، ويعمل فيه هو ووالدتي بلا كلل، خاصة خلال موسم السياحة. رائحة السمك المشوي والتوابل الزكية كانت تجذب الزوار من أول الشارع.
إلى جانب المطعم، لدينا شقق وفيلات بسيطة لكنها مرتّبة ونظيفة، نؤجرها يوميًا للمصطافين. كنّا نحرص على أن تكون مفروشة جيدًا ومجهزة بكل شيء يحتاجه الزوار. والحمد ***، كان الحال – ماديًا – في أفضل حالاته، وكنا نعيش صيف كل سنة وكأنه موسم حصاد.
أنا اسمي مروان، وكنت في ذلك الوقت في التاسعة عشرة من عمري، قد أنهيت لتوي السنة الأولى في الجامعة، أدرس اختصاص الاقتصاد والتصرف. أنا الابن الوحيد لأمي وأبي، وورثت عن والدتي جمال ملامحها: عينان عسليتان، وشعر يميل إلى اللون الأحمر، وبشرة بيضاء ناعمة. كثير من الناس كانوا يلقبونني بـ"الأوروبي" بسبب مظهري، والصراحة أن حظي كان جيدًا مع الفتيات — كل من كنت أود التقرّب منها كانت في الغالب تبادلني الاهتمام.
وما زادني تميزًا — أو هكذا كان يقال — أنني لم أكن جميل المظهر فقط، بل كنت أيضًا متفوقًا في دراستي، مهذبًا، ومن عائلة ميسورة الحال. كل تلك الصفات اجتمعت لتجعل مني شابًا محظوظًا، أو على الأقل هكذا كنت أرى نفسي حينها.
وكان من عادة كل صيف أن تأتي جدتي — أم والدتي، واسمها "صباح" — لتقيم معنا في القرية. كانت تعيش عادةً في بيت خالي بمدينة قريبة، ولكن عندما يسافر هو وزوجته وأولاده إلى فرنسا لقضاء الإجازة، يتركونها لدينا لمدة شهرين على الأقل. وقد كنت أنا المسؤول الأول عن رعايتها خلال هذه الفترة.
جدتي، رغم أنها كانت قد تجاوزت الخمسين بكثير، فإن ملامح وجهها ما زالت تحتفظ بجمالها الأوروبي الأصل، حتى مع التجاعيد التي بدأت تظهر. بشرتها بقيت ناصعة وناعمة، ورائحتها دائمًا زكية وعطرة، وكأنها تستخدم عطراً خاصًا بها لا يتغيّر. صحيح أن حركتها أصبحت بطيئة، ووزنها زاد قليلًا بسبب قلة الحركة، لكنها كانت محبوبة، حنونة، وتملأ البيت بدفء خاص لا يشبه أحدًا غيرها.
في تلك السنة تحديدًا، بدأ عدد المهاجرين بطريقة غير شرعية في التزايد بشكل ملحوظ من قريتنا. كثير من الشباب صاروا يرون في البحر طريقًا للهروب من الواقع، باحثين عن مستقبلٍ أفضل في الضفة الأخرى. ومن بين أولئك الذين غادروا في إحدى الرحلات، كان شاب يعمل لدينا في المطعم، في خدمة التوصيل.
وبسبب غيابه المفاجئ، اضطررت أن أملأ مكانه، رغم أنني بطبعي لا أحب العمل في الصيف. كنت أفضّل أن أستمتع بالعطلة مع أصدقائي الذين يتوافدون كل سنة إلى القرية، إضافة إلى أن الموسم السياحي يجلب معه العائلات والمناسبات، فأحببت دومًا أن أكون جزءًا من الأجواء، لا من طاقم الخدمة فيها.
لطالما فضّلت عملًا "نظيفًا" — كما كنت أسميه — مثل وظيفة الكاشير في المطعم، حيث التكييف والأحاديث القصيرة مع الزبائن، بدلًا من الجري تحت الشمس. لكن ضغط العمل كان شديدًا، والدي لم يكن يملك خيارًا، فشغّلني بدلًا من عامل التوصيل، وبدأت أرتدي الزيّ الخاص بالمطعم: قميص قطني باللون الأحمر الصارخ، يكاد يلسع العين من شدّته، وقبعة من نفس اللون، تُحكم على الرأس كأنها ختم المطعم على موظفيه.
وصرت أتنقّل على دراجة هوائية بين أزقة القرية، تمامًا كما اعتاد أهلها منذ زمن بعيد. لم يكن هناك دراجات نارية ولا سيارات توصيل أنيقة، فقط دراجتي العتيقة التي تصدر صريرًا خافتًا مع كل حركة، وسلال الطلبات المربوطة جيدًا خلف المقعد.
خلال تلك الفترة، عرفت تفاصيل القرية عن ظهر قلب: البيوت، الشوارع، حتى العائلات والزوار. أصبحت أميّز كل باب وكل شرفة، أعرف من يسكن هنا، ومن أتى لقضاء الصيف هناك. كنت أدخل أحيانًا من دون أن أطرق الباب، فقط بابتسامة وقول: "طلب المطعم، تفضلوا"، فيفتحون لي بثقة ومحبة.
وفي أحد الأيام، بينما كنت أوصل طلبية كالمعتاد، وقعت عيني على سيدة تنزل ببطء من سيارة أجرة على طرف الطريق. شيء ما في طريقتها لفت انتباهي — خطواتها المتثاقلة، هيئتها الهادئة، مشيتها الرزينة. كانت تشبه جدتي إلى حدٍّ كبير.
توقفت لثوانٍ أحدق فيها من بعيد، محاولًا التأكد. نفس القامة، نفس طريقة المشي، وحتى الحقيبة التي كانت تحملها بدت مألوفة.
ناديت، بصوت مرتفع قليلاً:
"تيتا صباح!"
لكنها لم تلتفت. لم تتوقف. وكأنها لم تسمعني.
ساورني الشك: هل هذه هي جدتي فعلًا؟ أم أنها مجرد امرأة تشبهها كثيرًا؟
قررت الاتصال بها لأتأكد… رفعت الهاتف، طلبت رقمها، وانتظرت.
لكنها — أو هي — أغلقت المكالمة مباشرة، دون أن ترد.
هنا بدأ الشك يتسلل إليّ ببطء، يخلط بين المعقول وغير المعقول.
شعرت بفضول لا يمكن تجاهله، فركبت دراجتي وانطلقت نحو الزقاق الذي سلكته السيدة. هو طريق معروف، ينحدر نزولًا نحو البحر، على جانبيه أبواب جانبية لفيلات مؤجرة، معظمها مسكونة في الصيف من قبل غرباء عن القرية.
وصلت بعد لحظات، وفي اللحظة التي دخلت فيها الزقاق، سمعت صوت باب يُغلق خلف أحد الجدران.
اقتربت من الباب، كان خشبيًا مطليًا بالأبيض، عليه ورقة قديمة نوعًا ما كُتب فيها:
"فيلا للإيجار — للاستفسار: [رقم الهاتف"
سجلت الرقم في هاتفي تلقائيًا، كأنني مدفوع بشيء غريزي لا تفسير له. وقفت للحظة أراقب، أتمعن، أبحث عن أي أثر. لكن لا حركة، لا صوت، لا دليل يؤكد أو ينفي ما رأيته.
عدت للاتصال بجدتي. مرة أخرى، أغلقت الخط دون رد.
هل كانت تتعمد؟ أم أن الأمر مجرد صدفة؟
وهل المرأة التي رأيتها… كانت فعلًا جدتي؟
لم أعد واثقًا. لكن شيئًا ما في داخلي كان يقول: هذا ليس مجرد تشابه.
نسيت الموضوع وعدتُ للعمل في المطعم لأوصل الطلبات، ومن هناك مررت على فيلتنا، وهي فيلا مطلة على البحر من الجانب الآخر للقرية. وجدت جدتي صباح تستحمى، وطلعت ببشكير الحمام، وكان جسمها شبه عاري وشعرها المبلول ينسدل على كتفيها. اطمأنت على صحتها، وسألتها إن كانت قد خرجت من المنزل، فأجابت بالنفي. وبالنسبة لهاتفها قالت إنها لم تسمعه لأنه كان في وضع الصامت.
أنهيت يوم العمل ذاك، وعندما فتحت حسابي على الفيسبوك ليلاً، ظهر لي اسم شخص من خلال رقم الهاتف الذي سجلته: طارق السمسار، ينشر على حسابه الشاليهات والفيلات التي تؤجر بالليلة أو لفترات للمصطافين الوافدين إلى قريتنا طمعًا في بعض الراحة. وعند تصفحي لحسابه الشخصي، تأكدت أن الفيلا التي لحقت بها السيدة على بابها كانت مؤثثة ومعدة للإيجار، وهي معروضة لهذا الغرض مع الرقم الذي عُلّق على أبواب الفيلا.
تمر الأيام، وكلما صادف تواجدي بالقرب من مكان تلك الفيلا، أبقيت على تركيز تام، وعيني تنصب على مداخلها الأمامية والجانبية. وفعلاً، شاهدت ذات مرة مشهداً مريباً استوقفني بالقرب من تلك الفيلا. في البداية، رأيت رجلاً ضعيف البنية، أسمر اللون، بأوشام على ذراعيه، ينزل من دراجة نارية قديمة الطراز. وضعها أمام الفيلا، ثم دخل من الباب الأمامي وهو يحمل كيس نايلون أسود. التفت إلى اليمين واليسار، ثم فتح الباب ودخل.
بعد دقائق، خرجت امرأة من مخزن على بعد فيلتين من الفيلا التي دخلها الرجل، ولحقت به من الباب الجانبي.أعرف هذه المرأة، انها متزوجة و لها طفلين، هدى الكوافيرة و هي اصلا ضيفة في بيت والدتها العجوز، الأبواب أغلقت، كأن شيئاً ما يحدث، مختلف عن مجرد سمسرة العقار. انتابني الفضول، وأردت التأكد من أمر في خلدي: سيدة ثانية أراها تدخل هذه الفيلا، وشكل الرجل أثار الشك والريبة.
تتشابه المساكن في قريتنا، وطراز هذه الفيلا لن يكون مختلفاً عن الأخريات. سبق لي أن عشت تجربة سرقة الفواكه من أشجار الجيران وتسلق أسوارهم، وسور هذه الفيلا ليس بالمرتفع. قفزت، فوجدت نفسي أعلاه، واطلعت على الحركة في الحديقة؛ لم يكن هناك أحد. نزلت واختبأت بسرعة حتى لا يراني أحد، والتقطت أنفاسي.
كان هناك باب خشبي مغلق للمنزل بالداخل، لكن الشبابيك مفتوحة ومحمية بأسوار حديدية. سمعته صوتاً من الداخل، داخل إحدى الغرف. تبعت الصوت من خلال الشبابيك، ووصلت إلى غرفة يبدو أنها الصالون. كان هناك رجل يجلس على الأرض ويخرج من الكيس قوارير خمر خبأها عن المارة، بينما تجلس على كنبة بجانبه المرأة التي رأيتها في الخارج. كانت ترتدي جلبية موردة بيتي خفيفة وشبشباً، كأنها كانت على الشط.
فجأة، بعد بعض الحوار والوشوشات، رأيت المرأة تخلع عن نفسها الجلبية، ليظهر جسمها الأسمر.
كانت المرأة ذات لون أسمر دافئ، جسدها ممتلئ ومكتنز بمفاتن طبيعية. طبقات بطنها تبرز بسلاسة ونعومة، كأنها منحوتة من الحرير والظل، تضيف لها دفء وحيوية. ذراعاها ممتلئتان ومتمايلتان بانسيابية، وخصرها غير محدد بدقة، ما يزيدها طابعاً إنسانياً حقيقياً، بعيداً عن المثالية المصطنعة. كل حركة لها تنبض بالثقل والمرونة معًا، فتشعر وكأن الجسد نفسه يروي قصته، بكل تفاصيله الطبيعية ودفئه الجسدي، هدى طلعت أجمل بكثير و هي عارية، كانت تلبس الجلبية على جسمها عاري.
كانت عيوني تكاد تخرج من محاجرها، لم أصدق ما أرى. هدى، تلك المرأة المتزوجة التي يعيشها زوجها في رفاهية وأمان، شخص محترم يعمل في مصلحة عمومية، ولديها طفلان صغيران، ولد وبنت في عمر الست والثمان سنوات تقريبًا، لم أكن أتصور أنها في موقف كهذا. جدتها صديقة جدتي، وهذا جعلني على معرفة بالعائلة، لكن ما رأيته الآن كان صادمًا بحق.
الرجل الذي ترافق معها داخل الغرفة بدى سرسجي الملامح، قاسٍ، واضح عليه أثر السجن والخشونة، بعينيه الغامضتين وتلك التحدبات على وجهه التي تحكي قصص العنف والخبث. أما هدى، فكان جسدها يتلألأ بالعرق تحت ضوء الغرفة الخافت، كل حركة لها تنبض بالحياة والحرارة، وكل اهتزاز يجعل ضوء المصباح يلمع على جسدها الأسمر الممتلئ، المشدود والمفعم بالأنوثة الطبيعية، مع طبقات من اللحم تضفي عليها طابعًا إنسانيًا وواقعيًا.
كانت أصوات أنفاسها واهاتها تتخلل المكان، وكأنها تحاول الصراخ في صمت، فارتفع الصوت حين تبادلا القبل، حتى شعر كل منهما بالحرج من أي متطفل، فقررا تشغيل أغنية من هاتف أحدهما، لتغطي الموسيقى على الشهوات الأنثوية الصارخة التي كانت تهز الغرفة. كل حركة، كل همسة، كانت تضيف توترًا دراميًا للمشهد، كأن الزمن توقف للحظة، وكأن الغرفة تحولت إلى مسرح يجسد سرًا ممنوعًا، بعيدًا عن أعين العالم.
جسدي تفاعل، أشعر بقضيبي يخترق ملابسي الداخلية، ما اراه من قبلات يملؤها الشغف و تلامس كفي هذا السرسجي مع أثداء هدى، جعلا جسمي يرتجف شهوة، أشعر اني برغبة في التهام جسدها بزبري الذي يصل طوله 16 صم ، أطول من الذي يملكه هذا المتلاعب بجسمها، يرتشف رحيق وردتها، يضع رأسه بين فخذيها و يحرك لسانه عليه من الخارج، كأنه يلتهمه، و هي كالفريسة تتلوى مستسلمة و تحرك يديها ناحية رأسه تجذبه نحوها حتى يلتصق بها و يصبحا كتلة واحدة، كانت تحرك رأسها فوقا و يمينا و يسارا و عيونها ترتفع حتى تصبح بيضاء بدون بؤبؤ، كأنها تموت في ثواني و تعود للحياة بهزات بطنها و تحركات افخاذها و سيقانها التي تحكم بها السيطرة على طارق السمسار، كلها لحظت حتى اضحت تتوسل اليه ان ينهي ما بدأه بصوت مرتفع كأنها تتألم من شدة النشوة، تطلب منه أن يفرغ حمولاته الساخنة في أحشائها و يتركها تسير في سبيلها تمارس حياتها العادية، و طارق لم يرفض توسلاتها طويلا، افترش شفرات كسها الأسمر قليلا، قبل ان يدخل زبره الصغير الحجم في الطول لكن عريض داخلها، و يتحرك فوقها بنصفه العلوي و ينهال على شفتيها بالقبل قبل ان ينتفض و يتلوى و يصرخ ، يبدو ان صديقنا قذف منيه بداخل هدى و انهى في دقائق ما بداه.
تبلل سروالي دون ان ألمسه، هي المرة الأولى التي ارى فيها علاقة جنسية امام أبصاري، يفصل بيننا هذا الشباك الحديدي و بعض الأثاث، خرجت بشرعة قبل أن يفتضح امري و غادرت المكان على متن دراجتي، مباشرة إلى المنزل للإستحمام و التنظف من المني الذي خرج مني اثناء مراقبة طارق السمسار، تحت المياه الباردة مارست العادة لمرة و الثانية على صور هدى و هي فريسة تحت طارق السمسار، أطلت في ضربي العشرة اكثر مما استغرقه السرسجي في علاقته مع هذه البطة الجميلة، أنهيت يومي مرهقًا، وكنت أشعر بثقل قدميّ وصداع خفيف يطرق رأسي، جلست على أريكتي أستريح لحظة، أستمع لصوت البحر البعيد يلاطف النوافذ، وحاولت أن أنسى المشاهد الغريبة التي رأيتها مؤخرًا. تناولت وجبة خفيفة، وشربت فنجان قهوتي المعتادة، ثم فتحت نافذتي لأتنفس الهواء المسائي، وأحاول أن أفرغ عقلي من كل التوتر، مع كل رمش أرى هدى و جسدها العاري كم أشتهيها ..
منذ ذلك اليوم، صرت أزور الزقاق نفسه في كل وقت ، الصباحيات عند العمل كل مساء، بعد أن أنهي توصيلاتي. أمرّ من هناك ببطء، أركن دراجتي في الظل، وأراقب بصمت.مرّ أسبوع، ثم آخر. لم أرَ شيئًا. لا سيارة، لا امرأة، لا أثر. بدأت أشكّ في نفسي: هل كنت أتوهم؟ هل اختلطت الأمور عليّ؟ لكن ذلك الشعور بداخلي لم يخفت، بل كان يزداد ثِقلاً.
في وقت القيلولة — حين تكون الشمس في أوجها، والقرية كلها غارقة في صمت ثقيل، يكسره أحيانًا صوت مروحة قديمة أو نباح كلب نعسان.
كنت أركن دراجتي تحت شجرة جافة، وأجلس بعيدًا، في ظل حائط متآكل، أراقب أبواب الفيلا من بعيد، كأني أوصل طلبات كالمعتاد، بعيدا عن أي شكوك قد تحوم حول تواجدي بالمكان، ثم، في ظهيرة خانقة، شعرت بشيء يتحرك داخلي.
بأم عيني ، أرى تلك الدراجة النارية بصوتها المزعج تتوقف امام الفيلا، ينزل منها ذلك السرسجي طارق بكيس أسود شبيه بالمرة الماضية، دخل بنفس الحذر و اغلق من وراءه الباب ، كلها دقائق و رأيتها.
السيارة ذاتها، تاكسي قديم بلون باهت. توقفت ببطء عند طرف الزقاق، ونزلت منه امرأة بذات الهيئة، نفس المشية، نفس الحقيبة التي كانت تحب تيتا صباح حملها في خروجاتها الخفيفة.
هذه المرة لم أتردد في تأمل ملامحها. لم تكن مجرد شَبَه.
كانت هي.
كانت الشمس تضرب رأسي مباشرة، والعرق يتصبب من جبيني رغم أنني بالكاد تحركت.
وقفت أمام السور الخارجي للفيلا، يدي على الحافة الخشبية الخشنة، أراقب المكان من بين فروع الشجرة الكثيفة التي خبّأتني لأيام. كانت الساعة تقارب الثانية بعد الظهر — وقت القيلولة، حين تسكن الشوارع، ويصير الهواء أثقل من العادة.
ترددت.
نظرت يمينًا ويسارًا.
لا أحد. لا حركة. لا صوت سوى طنين ذبابة تحوم بإصرار حول وجهي، كأنها تحاول صرفي عن قراري.
بلعت ريقي بصعوبة. قلبي كان يدق في صدري بطريقة غير طبيعية، كأنه ينبّهني، يحذرني، يترجاني أن أتراجع.
لكني وضعت يدي على الحافة… وقفزت.
قدماي لامستا الأرض في الداخل بخفة، لكن الهبوط لم يكن سلسًا. شعرت برعشة تسري في جسدي، ليس من الألم، بل من التوتر. من شعور أنني دخلت شيئًا ممنوعًا، شيئًا لا رجعة منه.
وقفت في الظل، أحاول التقاط أنفاسي. يداي ترتجفان. أطرافي باردة رغم حرارة الجو.
كنت أعرف أنني تخطيت خطًا ما… لكن الفضول — أو ربما الخوف من الحقيقة — كان أقوى من أي منطق.
مشيت ببطء على أطراف قدمي، أقترب من باب الحديقة الخلفي، الذي لاحظت وجوده من قبل. كان خشبيًا، نصفه مغطى بالطلاء الأبيض المتشقق، وفيه فتحة صغيرة بالكاد ترى منها الداخل.
اقتربت أكثر… وضعت يدي على المقبض.
لحظة واحدة فقط، جمّدتني.
"شو لو كانت مو هي؟ شو لو طلعت؟ شو لو شافتني؟ شو رح أقول؟"
ثم، فجأة… فتحت الباب.
داخلي كله كان يرتجف. كنت أتنفس بصعوبة، وكأن الهواء في هذا المكان لا يصل للرئتين. كل شيء فيني كان مشدودًا — كتفيّ، رقبتي، حتى فكي السفلي.
دخلت.
وما إن دخلت، حتى أحسست أني لم أعد كما كنت.
كأن شيئًا في العالم تغيّر.
كأنني الآن داخل حلم... أو كابوس.
الجزء الثاني
داخلي كله كان يرتجف. كنت أتنفس بصعوبة، وكأن الهواء في هذا المكان لا يصل للرئتين. كل شيء فيني كان مشدودًا — كتفيّ، رقبتي، حتى فكي السفلي.
دخلت.
وما إن دخلت، حتى أحسست أني لم أعد كما كنت.
كأن شيئًا في العالم تغيّر.
كأنني الآن داخل حلم... أو كابوس.
جدتي تجلس على كرسي خشبي بجسدها المملوء، و تتكئ على احدى ركبتيها و تقوم بمص قضيب طارق، مفاجأة !!!
نعم ، كانت مفاجاة صادمة، تمنيت ان لا تراها عيني،زاوية نظري كانت مناسبة للرؤية و السماح، رؤية جدتي و هي تلعق ذكر هذا السرسرجي و سماعها و هي تطلب منه الإسراع لأنها لا تستطيع المكوث طويلا خارج البيت و إلا ستثير شبهات، و هو يتأوه بصوته المبحوح و يقول لها بالحرف، مصي يا شرموطة اااه حاضر حخلص بسرعة ، و ايديه داخل جلبابها الأسمر و كان يتلاعب بثدييها العظيمين من فوق الثياب، أخرجت هاتفي من جيبي و قمت بالتقاط فيديو طوله حوالي 30 ثانية، ثم تراجعت ، لأعود أدراجي، بنفس الحذر، تراجعت للخلف و عدت للخارج، شعرت بدوار و دموع مخزنة نزلت على خدودي ، شعرت اني اريد ان أستفرغ مابأحشائي، و اول ما خرجت من باب الفيلا حتى قمت بهذا، أشعر بالاشمئزاز تجاه طارق السمسار، لم أتقبله كشخصية في هذا المجتمع، رأيت انه عالة، خريج سجون ، وسخ من داخله و في جسمه، أشعر بالقرف تجاهه و اليوم تأكدت من علاقته بجدتي العجوز التي لطالما مثلت في نظري رمز العفة، نجحت في تربية أبناءها بعد وفاة جدي منذ ما يقارب 15 عام، انهارت صورتها امامي، كل ما أغمض عيوني ارى صورتها تهتز امامي ، اراها في مشهد لا يتناسب مع عمرها، و هي تمص زبر الغريب السمسار عنتيل النسوان المتزوجة في حالة هدى، و النسوان العجوز في حالة جدتي صباح و ما خفي أعظم.
عدتُ إلى بيتنا مثقلاً بالدوار، وكأن رأسي صندوقٌ من الرمل، يتمايل مع كل خطوة.
في طريقي من الشارع إلى الداخل، كنت أحاول تصديق أن ما رأيته قد حدث فعلًا. خطواتي لم تكن تسير إلى الأمام بقدر ما كانت تنسحب إلى الوراء… إلى الوراء في الزمن، في الذكريات، في الطمأنينة التي كانت لي ذات يوم، قبل أن تختلّ.
أشعر بقشعريرةٍ تنخر عظامي، لا أعلم إن كان السبب جسديًا أو شيئًا أعمق. شيء يسري فيّ كالخيانة، شيء لا اسم له.
أغلقت الباب خلفي ووقفت في الصالة لحظة. لم يكن في البيت أحد.
سكون.
لكن السكون هذه المرة لم يكن مُريحًا. كان خانقًا، مُ***ًا، يحمل صدى صوتي الداخلي وأنا أردد لنفسي:
"مش ممكن... مش ممكن اللي شفته حقيقي."
جدتي؟ جدتي على علاقة بطارق؟
طارق... ذو الملامح الحادة، العيون التي لا تثبت في مكان، الابتسامة التي تسبقها ريبة وتليها ريبة.
اتصلت بالمطعم، اختلقت مرضًا في صوتي، وطلبت إعفاءي من نوبة المساء. لم أستطع العمل وأنا أحمل هذا في رأسي. عدت إلى البيت، رأسي مليء بأسئلة لا إجابة لها.
دخلت الحمام، خلعت قميصي، ونظرت إلى المرآة.
لم أتعرف على نفسي.
شخص بملامح ذابلة، عينين متعبتين، وشفاه ترتجف.
ثم بكيت.
بكيت كما لم أبكِ منذ سنين. لم تكن دموعًا فقط، بل نحيبًا داخليًا، انهيارًا حادًّا بلا صوت.
انكمشتُ تحت الدش، كأنني أحاول أن أُفرغ من رأسي صورة لم أطلب رؤيتها.
خرجت من الحمام وجسدي لا يزال يرتجف، واتجهت إلى غرفة جدتي.
هي ضيفتنا الصيفية الدائمة.
تأتي كل عام مع مطلع يونيو، وتحمل معها أشياءها الصغيرة: حقيبة جلد بنية، وعلبة بلاستيكية مليئة بالأدوية، وعلبة معدنية صغيرة فيها كعك يابس من صنع يديها.
تسكن الغرفة المجاورة لغرفتي، وتعيد معها في كل صيف شعورًا بالطفولة... كانت جزءًا من روتين العائلة، من ذاكرة الصيف والمراوح والضحك الخفيف بعد العشاء.
دخلت غرفتها الآن وكأنني أزورها لأول مرة.
كل شيء فيها كما هو: مروحة السقف التي تصدر صريرًا خفيفًا، غطاء السرير المخطط، صورتها وهي شابة على الرف، زجاجة العطر التي لا يتغير نوعها أبدًا، رائحة الثياب النظيفة التي تشبه رائحتها.
جلست على حافة السرير. لم أكن أبحث عن إجابات، بل عن مَخرج.
كيف يمكن لشخص يسكن في قلبك بهذه الراحة، أن يُحدث فيك كل هذا الزلزال؟
كيف يمكن أن تُعيد لحظة واحدة تشكيل فهمك لشخصٍ أحببته عمرك كله؟
هل كانت هناك حياة أخرى لها؟ أسرار لا نعرفها؟
أم أنني أنا المخطئ، أنا الذي لم أفهم المشهد كما يجب؟
أغمضتُ عينيّ واستحضرت كل لحظات الصيف التي قضيناها سويًا.
ضحكتها الخفيفة وهي تسقي الزرع، قصصها القديمة عن شبابها في القرية، طبختها المفضلة التي لا يُجيدها أحد سواها، خصلات شعرها البيضاء المربوطة بإحكام، صوتها وهي تناديني:
"قوم افطر يا حبيبي، ما يصير تنام لهي الساعة."
كنت أعتقد أنني أعرفها.
لكن الحقيقة؟
أنا لا أعرف إلا ما كانت تُريدني أن أعرفه.
دقائق مرت وأنا أقف في منتصف الغرفة، ما زلت أتنفس بثقل كمن خرج لتوّه من تحت الماء. عقلي يركض في دوائر لا تنتهي، أفكار تصطدم ببعضها كأنها في غرفة ضيقة، وقلبي… لا يهدأ.
ثم سمعت صوت الباب يُفتح.
خطواتها بطيئة، معتادة، لا تحمل ارتباكًا.
دخلت الغرفة دون أن تنتبه لوجودي أولًا، تضع كيسًا صغيرًا على الطاولة، يبدو أنها اشترت بعض الفاكهة أو شيئًا من السوق. كانت ترتدي ثوبها القطني البسيط، وشعرها مشدود إلى الوراء كالعادة، المنديل الأبيض الذي يغطي رأسها تحته بعض خصلات شاردة.
رفعت عينيها، ثم تجمدت لحظة وهي تراني واقفًا هناك.
– "إنت هنا؟ خوفتني… ليش واقف كده؟"
لم أجب فورًا. نظرت إليها، وقلبي يعلو ويهبط كأن في صدري حربًا أهلية.
ابتسمت تلك الابتسامة الصغيرة التي طالما كانت تعني "كل شيء تمام"، لكنها اليوم بدت وكأنها قناع رقيق يغطي شيئًا آخر، شيء أعرفه الآن، أو أظن أنني أعرفه.
– "كنت بس... قاعد أفكر شوي."
قالت وهي تزيح الطرحة قليلاً من على جبينها:
– "تعبان؟ شكلك مصفّر. كلّمت شغلك؟"
أومأت برأسي:
– "إي، قلت لهم ما أقدر أداوم اليوم."
سادت لحظة صمت ثقيلة.
كانت تنظر إلي، وتبدو طبيعية تمامًا. لا شيء في تصرفاتها يشير إلى أنها تعرف أنني رأيت شيئًا.
أما أنا، فكان رأسي يعجّ بألف سؤال، وألف إجابة متضاربة.
أواجهها؟ أقول لها ماذا رأيت؟ أم أبتلع كل هذا وأصمت؟
لو واجهتها، ماذا سأقول؟
هل أبدأ بكلمة "رأيتك"؟
هل من حقي أن أسألها؟
وهل ستصدق أنني لا أقول ذلك من باب الفضول، بل من باب الخوف، والخذلان، والارتباك؟
لكن إن صمتُّ… هل أقدر على أن أعيش كأن شيئًا لم يحدث؟
هل سأستطيع أن أنظر إليها بنفس النظرة مرة أخرى؟
أم أن الشك سيأكلني حيًّا، كل صباح، كل مساء، كل مرة تخرج من الباب؟
جلست على طرف السرير، وأنا أنظر إلى الأرض.
هي كذلك جلست في كرسيها المعتاد، تنظر إليّ.
ثم فجأة، قالت بهدوء:
– "في شي بخاطرك؟ إحساسك مو مريحني…"
رفعت عيني إليها.
نفس الوجه، نفس الملامح، لكن خلفها الآن مئات الاحتمالات.
كأنّ الكلمات وصلت إلى حافة لساني… ثم توقفت.
قلت بهدوء، محاولًا أن أبدو عاديًا:
– "لا… يمكن بس شفت شي خلاني أفكر."
نظرت إلي مطولًا، ثم تنهدت.
لم تسألني "وش شفت؟"، وكأنها تعرف تمامًا ما الذي أعنيه… أو ربما تتوقع.
أو ربما، وأنا فقط من يتخيل كل هذا.
وقفت بعدها بهدوء، وبدأت بترتيب بعض الأغراض على الطاولة.
حديثها توقف، وكذلك حديثي.
لكن في الغرفة، كانت هناك جملة غير منطوقة، جملة ثقيلة، مُعلقة بيننا، تنتظر من يطلقها أولًا.
وأنا… لم أكن مستعدًا. لا للمواجهة، ولا للصمت.
فجلست هناك، أراقبها تتحرك، وأحاول أن أتذكر:
هل كل شيء رأيته… كان حقيقة؟
أم أن بعض الحقائق لا تكون كاملة إلا إذا قيلت بصوت أصحابها؟
لم أستطع البقاء في المساحة الرمادية أكثر.
استجمعت قواي بصعوبة، كأنني أخرج كل كلمة من حفرة في صدري، وقلت لها:
– "جدتي... من طارق؟ وش علاقتك فيه؟"
توقفت يدها عن الحركة، نظرت إليّ وكأنها لم تسمعني جيدًا.
ثم قالت، بصوت فيه نبرة دفاع فطري:
– "طارق؟ تقصد طارق الأسمر؟ السمسار؟ هذا بس يتابع أجارات البيوت حق أخوالك في القرية، ليه تسأل؟"
نظراتها بدأت تهتزّ.
حاولت أن تبدو هادئة، لكن كان واضحًا أن السؤال اخترق درعها.
وجهها، الذي عرفته مطمئنًا كل عمري، كان الآن يتحول ببطء... وكأن شيئًا أثقل من السؤال يتكشّف داخله.
قالت محاولة تحويل دفة الحديث:
– "من وين تعرفه؟ في شي؟ انت ليش تسأل أصلاً؟"
لم أستطع التحمّل أكثر.
انفجرت.
الصوت الذي كنت أخنقه خرج أخيرًا، لا ككلمة... بل كدموع، كنشيج.
وقفت، ومددت يدي إلى الهاتف، فتحته، وشغّلت الفيديو.
أنا خلف الحائط، هما داخل بيته.
ضحك، همس، اقتراب مبالغ فيه. لغة جسد لا تقبل التأويل.
كل شيء كان واضحًا.
صوت الفيديو امتزج بصوت بكائي.
أنا لا أبكي فقط من أجل ما رأيت، بل من أجل ما تهدم داخلي.
كل شيء كان كبيرًا جدًا على قلبي: الخذلان، الصدمة، التضارب بين صورتها في رأسي وواقعها أمامي.
هي كانت تتابع الفيديو بوجه شاحب، جسدها لا يتحرك.
ثم انطفأ الهاتف.
رفعت وجهها إليّ… وبدأت تبكي.
بكاء صامت أولًا، ثم ارتجاف، ثم صوت مكسور يشبه صوت اعتراف متأخر:
– "أنا آسفة… ما كنت أقصد. ما أعرف كيف وصلت لهالمرحلة، كيف انجرفت… كيف تركت نفسي أضعف.
أنا غلطت… غلطت يا وليدي.
بس ما كنت ناوية... ما كنت ناوية أكون هناك، ولا أكون هي."
ركعت أمامي، يداها ترتجفان وهي تمسك بيدي:
– "أنا كبيرة… ومو المفروض أبرر. بس أقسم لك، قلبي كان فاضي. الوحدة توجع، وتخلي الواحد أحيانًا يصدّق أي اهتمام، أي كلمة… حتى لو جت من شخص مثل طارق."
أنا لم أقل شيئًا.
كنت ما أزال أبكي.
وهي كانت تبكي معي.
وكل الغرفة تحوّلت إلى بركة من الوجع، لا أحد فيها أقوى من الآخر.
لا أحد يملك إجابة.
قالت وهي تمسح دموعها بكمّ ثوبها:
– "أرجوك… أرجوك لا تقول لأحد.
استر عليّ، زي ما سترت عليك وأنت صغير.أنا غلطت، بس ما أنا شريرة، ولا خبيت شي عنكم عمري كله، غير هالغلط.
أرجوك لا تكسرني."
كان هناك شيء مُفجع في نظرتها…
امرأة تهدمت من الداخل، لا تدافع، لا تبرر، فقط تطلب رحمة.
لم أكن أعلم ماذا أفعل.
كل ما فعلته أنني جلست بجانبها على الأرض، ونحن نبكي، بصمتٍ ثقيل، كأننا نحاول نفض الغبار عن من تبقى فينا.
لا يوجد أحد كامل، أعرف ذلك.
لكن بعض الأخطاء... تهز جدران البيوت.
والآن، بيتي من الداخل صار هشًا،
وكل ما أملكه… أن أحاول ألا أكرهه.
جلستُ إلى جوارها، أشعر كأن جسدينا، رغم المسافة الصغيرة، بينهما جدارٌ من زجاج مكسور. كل كلمة نحاول قولها تجرح أصابعنا، وكل دمعة تلمع بيننا مثل شظية.
كانت هي تمسح دموعها على عجل، وتتنفّس بصوتٍ متقطّع، فيما أنا أنظر إلى الأرض، أحاول أن أُعيد ترتيب داخلي كما يُعيد المرء ترتيب غرفة بعد عاصفة.
لم أعد أرى “جدتي” التي كنت أعرفها فقط، ولا تلك الصورة التي كانت ترسمها لنفسها في ذاكرتي، بل امرأة أخرى: امرأة بكت وحكت، واعترفت بوحدتها. امرأة ليست قديسة ولا شيطانة، بل بشر… مثلي.
كان هناك صراع في قلبي: بين الرغبة في معاقبتها، والرغبة في احتضانها، والرغبة في أن أهرب من كل هذا. لكن وسط كل هذا، شيء صغير بداخلي كان يقاوم: شيء يرفض أن يكرهها، شيء يتذكّر الطفولة ورائحتها وهي تسقيني الشاي.
رفعتُ رأسي إليها أخيرًا. كانت عيناها تبحثان في وجهي عن حكمٍ أو رحمة. لم أملك حكمًا، ولا رحمة كاملة، لكنني وجدت نفسي أمدّ يدي إلى يدها. كانت ترتجف، لكنها حين شعرت بيدي استقرت قليلًا.
همستُ بصوتٍ خافت، بالكاد خرج:
– "ما أعرف… ما أعرف أقول لكِ إيش. بس… ما أبغى أكرهك."
أطبقت يديها على يدي كأنها تمسك بطوق نجاة. دموعها ما زالت تسيل، لكن عينيها خفَّ فيهما الرعب قليلاً، كأنها وجدت في كلمتي نافذةً صغيرة في هذا الجدار.
سادت لحظة صمت طويلة، لا هي فيها اعتذار كامل ولا غفران كامل. كانت مساحة رمادية، لكنني كنت أتنفس فيها للمرة الأولى منذ ساعات.
نظرتُ إلى النافذة. الشمس كانت تميل إلى الغروب، والضوء البرتقالي يدخل إلى الغرفة ويكسو الأثاث، صورها القديمة، وكل ما حولنا بلونٍ دافئ. لونٌ يشبه الصفح، لكنه لا يمحو الوجع.
شعرتُ أن البيت نفسه يتنفس معنا، يتألم معنا، لكنّه لا ينهار. الجدران ما زالت قائمة، حتى لو تصدّعت.
قلتُ لها بعد لحظة، بصوتٍ أهدأ:
– "خلينا نحاول… بس ما أقدر أعدك اليوم بأي شي. أنا محتاج وقت."
أومأت برأسها، ودموعها ما زالت تنزل بهدوء.
قالت:
– "خذ وقتك… أنا اللي لازم أتحمّل."
لم أعد أملك أكثر من ذلك. لم أملك سوى أن أجلس قربها، في هذا المساء الثقيل، وأترك الدموع تتساقط. لم أعد أعرف إن كنت سأغفر أو سأنسى، لكنني عرفت شيئًا واحدًا:
أننا، أنا وهي، خرجنا من تلك اللحظة مختلفين.
وأن الهشاشة، رغم قسوتها، قد تكون أول خطوة نحو أن نرى بعضنا على حقيقتنا… بلا أقنعة
– "اقطعي علاقتك بطارق.. اتصلي عليه وبلّغي أنه ما تريدي أي اتصال منه."
نظرت إليّ جدتي بعيون ثقيلة، مليئة بعبء سنين لم تُحكى، ثم أومأت ببطء وكأنها تحاول أن تثبت نفسها على قرارها.
رفعت الهاتف، وكانت الأصابع ترتجف قليلاً، لكنها ضغطت على الأزرار بثبات.
سمعت صوتها وهي تقول: "طارق، هذا قرار نهائي. رجاءً، لا تتواصل معي بعد الآن."
وضعت السماعة بهدوء، ثم التفت إليّ وقالت بصوت ضعيف:
– "خلصت."
لكن في عينيها، كان هناك شيء لم يُقال بعد، كان مثل سرّ كبير يتوارى خلف الحروف والكلمات.
رغم هذا القرار، لم أستطع أن أتوقف عن مراقبة طارق.
كنت أتابع تحركاته من بعيد، كيف يختفي في زوايا المدينة، كيف يبتعد عنه كأنه يعلم أنه خسر معركة لم تبدأ بعد.
وفي كل مرة يمر بها، تتغير نظرتي لجدتي.
لم تعد فقط تلك المرأة التي أحبها، بل أصبحت أكثر تعقيدًا، أكثر غموضًا، امرأة تحمل في داخلها صراعات أكبر مما ظننت.
كنت أشعر بالخذلان، لكن أيضاً بالشفقة.
صرت أرى جدتي بعينين جديدتين: لا كضحية أو خاطئة فقط، بل كإنسانة تحاول النجاة من وحدتها بطرق لا أفهمها بالكامل.
وهكذا، استمرت الأيام، وأصبحت مراقبتي لطارق وقلقي على جدتي جزءًا من روتيني الصامت، حيث ينتظر القلب أن يجد طريقًا للصفح، وللفهم، وللقبول.
مرت الأيام، وأصبحت مراقبتي لطارق جزءًا من روتيني اليومي، مثل نفس يتكرر بلا ملل.
دخولي إلى الفيلا لم يعد حدثًا غريبًا، فقد أصبحت المكان فارغًا من أي محتوى يستحق الانتباه، باستثناء طارق وقصصه المظلمة التي تتكشف ببطء.
كنت أبحث عن مفتاح يُفسر كل شيء، عن سر أكبر من مجرد علاقات عابرة.
طارق، الرجل الذي عرفته فقط بوجهه الحاد وابتسامته الغامضة، كان يحمل في جعبته قصصًا أخرى، قصصًا عن علاقات متعددة مع نساء متزوجات، كان هذا العالم خفيًا، مظلمًا، لكنه الآن بدأ يفتح أبوابه لي أمامي.
منذ فترة وأنا أعيش هاجسًا اسمه طارق السمسار. لم يعد مجرّد رجل عابر في الحيّ، بل صار لغزًا يثير في داخلي الريبة والفضول. أراقبه في الليل كما في النهار، أتابع خطواته، حركاته، صمته وكلامه. كنت أتسلّل إلى الفيلا التي يملكها وكأنها فضاء مهجور لا يسكنه أحد غيري، أتجوّل بين الغرف المظلمة والردهات الصامتة، أشمّ رائحة الغبار التي علقت بالأثاث، وأسمع صدى خطواتي يتردّد بين الجدران العالية. كنت أشعر للحظة أنّني صاحب المكان، لكنّ الخوف من أن يُفتضح أمري لم يكن يغادرني.
كانت الفيلا غارقة في صمت ثقيل، لا يقطعه سوى خشخشة خطواتي المترددة على الأرضية الرخامية. الضوء الخافت القادم من الشارع يتسلل عبر النوافذ الكبيرة فيرسم ظلالًا متكسّرة على الجدران، وكأنها عيون خفية تراقبني. قلبي كان يخفق بسرعة، لكن فضولي كان أقوى من خوفي. تقدّمت بين الأثاث الفخم الذي غطاه الغبار، ولمست بأطراف أصابعي المقاعد الجلدية الباردة، كأنني أختبر وجودي في عالمٍ ليس لي.
في تلك اللحظة، شعرت بنسمة غريبة تمر من خلفي، وكأن أحدًا يزفر بصمت. تجمّدت في مكاني. حاولت أن أقنع نفسي أنني أتخيّل… لكن صدى خطوات خافتة قادم من الممر الطويل أيقظ كل ذرة رعب داخلي. التفتُّ بسرعة، وإذا بظلٍ طويل ينساب على الجدار، يقترب شيئًا فشيئًا ..
خرج طارق من العتمة.
كان يقف هناك، عيناه تقدحان شررًا، كتفاه العريضتان تسدّان الطريق، وملامحه مشدودة بغضبٍ مكتوم. بدا كوحشٍ اصطاد فريسته أخيرًا. صوته اخترق السكون بنبرة حادة:
ــ "شو عم تعمل هون؟!"
ارتجفت الكلمات في حلقي، لم أجد ما أجيب به. يداي الباردتان ارتعشتا وأنا أبحث عن أي مخرج، لكن صوته ارتفع أكثر، يقترب مني بخطوات بطيئة ثقيلة، كل خطوة منه كانت تسحق الأرض تحت قدميه وكأنها تحكم عليّ بالهلاك.
وفجأة، مدّ يده وأمسكني من ذراعي بقوة جعلتني أشعر أن العظم سينكسر. حاولت أن أصرخ، أن أتبرأ، أن أجد أي عذر، لكنه لم يكن يسمع سوى صدى غضبه. وجهه اقترب من وجهي، ورائحة تبغه الممزوجة برائحة العرق تلفحني. عيناه كانتا مرآة غاضبة تعكس صورتي مذعورًا، صغيرًا أمام جبروته.
ثم، بلا أي مقدمات، هوى عليّ بلكمة كادت تطيح برأسي. سقطت على الأرض، وارتجفت الأرضية الباردة تحت وجهي. كان كل شيء يلتف من حولي: الأثاث، الظلال، حتى أنفاسي. سمعت صوته وهو يزمجر من فوقي:
ــ "تتجسّس عليّ؟! تفكر نفسك ذكي؟"
ذلك المشهد لم يكن مجرد مواجهة، بل إعلان حرب… من تلك اللحظة صرت أعرف أن حياتي تغيّرت، وأن مراقبتي له لن تمرّ بسلام بعد الآن.
كنت ما أزال على الأرض بعد أن دفعني بقوة، نهضت ألتقط أنفاسي المقطوعة، بينما هو يقف أمامي كجدار لا يُهزم، عيناه متّقدتان كجمرتين. ساد صمت ثقيل بيننا لثوانٍ، صمتٌ تسمع فيه دقات قلبك أقوى من أي صوت آخر. هو يحدّق بي بحدة وأنا أحاول أن أبدو متماسكًا، رغم الارتجاف الذي يتملّكني.
مدّ رأسه نحوي قليلًا وقال بصوتٍ غليظ متقطّع:
ــ «إيش جايبك لهنا؟ إيش اللي تدور عليه في بيتي؟»
كانت تلك اللحظة فاصلة. شعرت أنّه لن يفهم إلّا لو قلت له الحقيقة. جمعت ما تبقى من شجاعتي، وشعرت بمرارة الكلمات في حلقي وأنا أقول:
ــ «أنا… أنا عرفت كل شي، عرفت علاقتك بجدّتي…»
اتّسعت عيناه للحظة، وبدت الصدمة على ملامحه قبل أن يسيطر على نفسه. صوته هذه المرّة خرج منخفضًا، لكنه مشحون بتهديدٍ خفي:
ــ «انتبه لكلامك… وش تقصد؟»
رفعت عيني إلى عينيه مباشرة، رغم الارتباك:
ــ «أقصد اللي سمعته. أنت على علاقة بامرأة في عمر أمّك! هذه جدّتي، لازم تبتعد عنها فورًا. أنا ما جاي هنا أتجسس عليك ولا أفضحك، أنا جاي أحميها منك.»
تغيّر لون وجهه فجأة، ارتبك ثم حاول أن يتماسك. مشى ببطء في الغرفة، يمرّر يده على شعره، يعضّ على شفتيه. صوته خرج هذه المرة بلهجة مختلفة، كأنّه يفاوضني:
ــ «شوف يا ولد، ما *** مشاكل. أنا… أنا كنت ناوي أبعد عنها أصلاً. هي إنسانة طيبة، بس… خلاص. أنسى الموضوع. أطلع من بيتي الآن.»
كان يحاول أن يبدو هادئًا، لكنني رأيت الرعب في عينيه؛ الرعب من انكشاف أمره، من فضيحة قد تهدم كل شيء. اقترب مني أكثر، وضع يده الثقيلة على كتفي وضغط بقوة، صوته انخفض لكنه صار أكثر حدة:
ــ «اطلع. الآن. ولا تقول لأي أحد. اللي صار بيننا يوقف هنا.»
حاولت أن أبعد يده عن كتفي، لكنّه دفعني بقوة إلى الخلف. سقطت مرة أخرى، هذه المرة أحسست بألم حاد في ذراعي. رفع يده ثانية وضربني في صدري، لكنني لاحظت شيئًا غريبًا: كان يتعمّد أن تكون ضرباته في أماكن تغطيها الملابس، كأنه يريد أن يترك الألم بلا أثر مرئي، كأنه يخاف أن تظهر الكدمات فيفتضح أمره.
صوته كان يرتجف رغم صلابته الظاهرية:
ــ «اطلع من هنا قبل ما أغيّر كلامي.»
نهضت ببطء، أنظر إليه وأنا أتنفّس بصعوبة. كان المشهد كله خليطًا من الخوف والشفقة والغضب. لم أكن أعلم وقتها أنّ هذه اللحظة ستكون بداية النهاية لكل شيء بيننا.
مضت أيّام ثقيلة بعد المواجهة معه. صرت أمرّ بجانب الفيلا التي كانت مسرحًا لأسرار كثيرة، فأجدها غريبة عليّ. لم يعد طارق، سمسار العقارات الذي كان يدخلها ويخرج منها كصاحبها، موجودًا. بدلاً منه رأيت وجوهًا جديدة، مستأجرين غرباء ينشرون الغسيل في الشرفات ويملأون الحديقة بأصوات أطفالهم. كأن المكان محا أثره تمامًا، وكأنّ وجوده كان مجرد وهم.
في تلك الفترة تغيّرت علاقتي بجدّتي. لم تعد فقط عجوزًا تحنو عليّ وتدللني، بل صرت أراها امرأة بكل تفاصيلها. اقتربت منها أكثر، استمعت لقصصها كطفل، لكنني نظرت إليها كمراهقٍ يكتشف فجأة أنوثة قريبة منه أكثر مما يجب. كنت أهرب من عينيها أحيانًا، وأحيانًا أخرى أختبئ فيها، أنا أكثر من يرى جسدها بوضوح و لم يسبق لي التفكير فيه جنسيا، استحلامي رافقته والدتي في عقدة اوديبية أما جدتي لم تكن في بالي بهذه الطريقة يوما، كنت أعمى عن كتلات أثدائها البيضاء لون الكريمة، حجم شاسع ينفجر عندما تفك حمالات صدرها، و تطلقهما تحت الملابس البيتية،بطنها الممتلئة ذات الطبقات تضاريس العمر، أردافها العائدة للخلف كأنها تصافحك، أما وجهها، عيون عسلية كأنها شراب يذهب العقل، شفاهه تحمل تشققات عجوز بلون وردي فاتح يقرب للبياض، مع شعر أبيض كأنك تسبح في السحب البيضاء يوم شتاء .. شعور مربك، خليط من القرب والحب والدهشة، يملأ داخلي بصمتٍ لا أجرؤ على البوح به يقول أن جدتي تستحق أن تتمتع بما تبقى لها من عمر و الأولى أن أكون جديرا بها ..
و تواصلت ايضا مراقبتي لطارق، لم تكن مطاردتي لطارق السمسار بدافع الفضول، ولا رغبة في فضحه، بل شيء أعمق... شيء لا أفهمه تمامًا.
في البداية، كنت ألاحقه خلسة، أختبئ في زوايا الطرق، خلف جدران البيوت القديمة التي يشرف على تأجيرها. كنت أظنني أبحث عن خطأ، عن دليل على فساده، لكنه لم يكن يهمني إن كان مخطئًا أو مصيبًا.
شيئًا فشيئًا، بدأت أُفتن. طريقته مع النساء... كان يعرف كيف يزرع نفسه في قلوبهن، ثم في فروجهن.
أحببت سلوكه. أحببت سلطته غير المُعلنة. تمنيت لو كنت أنا هو.
راقبته طويلاً. نساء كثيرات، أغلبهن متزوجات، ينتظرنه خلف أبواب مواربة. كنت أراه كل مرة من زاوية جديدة، من فتحة جدار، من بين أشجار، من وراء ظلي.
في ذلك اليوم، كانت القرية خالية، كأنها أفرغت نفسها من الشهود، واحتفظت بي أنا فقط. كنت على دراجتي الهوائية، أتبعه كعادتي، وهو على دراجته النارية، يشق الطرق الترابية بثقة.
لكنه هذه المرة كان يشعر بي.
التفت أكثر من مرة، تردد في السير، ثم تسارع فجأة. كأنه قرر المواجهة.
في مفترق الطرق، سمعته يصرخ فجأة، نظرت أمامي، وإذا بسيارة مجهولة – لا أدري من أين ظهرت – تصدمه بقوة. تطاير جسده كريشة في مهب الريح، ثم سكن في منتصف الطريق.
ركنت دراجتي ببطء. لم أصرخ. لم أهرب. وقفت هناك أنظر إليه.
كنت الشاهد الوحيد. لا أحد غيري في هذا الفراغ.
ومن حسن حظي أن والدي يملك مطعمًا صغيرًا مطلًا على البحر، نوافذه مفتوحة طوال اليوم ليدخل نسيم البحر وينعش الجو، ويعمل فيه هو ووالدتي بلا كلل، خاصة خلال موسم السياحة. رائحة السمك المشوي والتوابل الزكية كانت تجذب الزوار من أول الشارع.
إلى جانب المطعم، لدينا شقق وفيلات بسيطة لكنها مرتّبة ونظيفة، نؤجرها يوميًا للمصطافين. كنّا نحرص على أن تكون مفروشة جيدًا ومجهزة بكل شيء يحتاجه الزوار. والحمد ***، كان الحال – ماديًا – في أفضل حالاته، وكنا نعيش صيف كل سنة وكأنه موسم حصاد.
أنا اسمي مروان، وكنت في ذلك الوقت في التاسعة عشرة من عمري، قد أنهيت لتوي السنة الأولى في الجامعة، أدرس اختصاص الاقتصاد والتصرف. أنا الابن الوحيد لأمي وأبي، وورثت عن والدتي جمال ملامحها: عينان عسليتان، وشعر يميل إلى اللون الأحمر، وبشرة بيضاء ناعمة. كثير من الناس كانوا يلقبونني بـ"الأوروبي" بسبب مظهري، والصراحة أن حظي كان جيدًا مع الفتيات — كل من كنت أود التقرّب منها كانت في الغالب تبادلني الاهتمام.
وما زادني تميزًا — أو هكذا كان يقال — أنني لم أكن جميل المظهر فقط، بل كنت أيضًا متفوقًا في دراستي، مهذبًا، ومن عائلة ميسورة الحال. كل تلك الصفات اجتمعت لتجعل مني شابًا محظوظًا، أو على الأقل هكذا كنت أرى نفسي حينها.
وكان من عادة كل صيف أن تأتي جدتي — أم والدتي، واسمها "صباح" — لتقيم معنا في القرية. كانت تعيش عادةً في بيت خالي بمدينة قريبة، ولكن عندما يسافر هو وزوجته وأولاده إلى فرنسا لقضاء الإجازة، يتركونها لدينا لمدة شهرين على الأقل. وقد كنت أنا المسؤول الأول عن رعايتها خلال هذه الفترة.
جدتي، رغم أنها كانت قد تجاوزت الخمسين بكثير، فإن ملامح وجهها ما زالت تحتفظ بجمالها الأوروبي الأصل، حتى مع التجاعيد التي بدأت تظهر. بشرتها بقيت ناصعة وناعمة، ورائحتها دائمًا زكية وعطرة، وكأنها تستخدم عطراً خاصًا بها لا يتغيّر. صحيح أن حركتها أصبحت بطيئة، ووزنها زاد قليلًا بسبب قلة الحركة، لكنها كانت محبوبة، حنونة، وتملأ البيت بدفء خاص لا يشبه أحدًا غيرها.
في تلك السنة تحديدًا، بدأ عدد المهاجرين بطريقة غير شرعية في التزايد بشكل ملحوظ من قريتنا. كثير من الشباب صاروا يرون في البحر طريقًا للهروب من الواقع، باحثين عن مستقبلٍ أفضل في الضفة الأخرى. ومن بين أولئك الذين غادروا في إحدى الرحلات، كان شاب يعمل لدينا في المطعم، في خدمة التوصيل.
وبسبب غيابه المفاجئ، اضطررت أن أملأ مكانه، رغم أنني بطبعي لا أحب العمل في الصيف. كنت أفضّل أن أستمتع بالعطلة مع أصدقائي الذين يتوافدون كل سنة إلى القرية، إضافة إلى أن الموسم السياحي يجلب معه العائلات والمناسبات، فأحببت دومًا أن أكون جزءًا من الأجواء، لا من طاقم الخدمة فيها.
لطالما فضّلت عملًا "نظيفًا" — كما كنت أسميه — مثل وظيفة الكاشير في المطعم، حيث التكييف والأحاديث القصيرة مع الزبائن، بدلًا من الجري تحت الشمس. لكن ضغط العمل كان شديدًا، والدي لم يكن يملك خيارًا، فشغّلني بدلًا من عامل التوصيل، وبدأت أرتدي الزيّ الخاص بالمطعم: قميص قطني باللون الأحمر الصارخ، يكاد يلسع العين من شدّته، وقبعة من نفس اللون، تُحكم على الرأس كأنها ختم المطعم على موظفيه.
وصرت أتنقّل على دراجة هوائية بين أزقة القرية، تمامًا كما اعتاد أهلها منذ زمن بعيد. لم يكن هناك دراجات نارية ولا سيارات توصيل أنيقة، فقط دراجتي العتيقة التي تصدر صريرًا خافتًا مع كل حركة، وسلال الطلبات المربوطة جيدًا خلف المقعد.
خلال تلك الفترة، عرفت تفاصيل القرية عن ظهر قلب: البيوت، الشوارع، حتى العائلات والزوار. أصبحت أميّز كل باب وكل شرفة، أعرف من يسكن هنا، ومن أتى لقضاء الصيف هناك. كنت أدخل أحيانًا من دون أن أطرق الباب، فقط بابتسامة وقول: "طلب المطعم، تفضلوا"، فيفتحون لي بثقة ومحبة.
وفي أحد الأيام، بينما كنت أوصل طلبية كالمعتاد، وقعت عيني على سيدة تنزل ببطء من سيارة أجرة على طرف الطريق. شيء ما في طريقتها لفت انتباهي — خطواتها المتثاقلة، هيئتها الهادئة، مشيتها الرزينة. كانت تشبه جدتي إلى حدٍّ كبير.
توقفت لثوانٍ أحدق فيها من بعيد، محاولًا التأكد. نفس القامة، نفس طريقة المشي، وحتى الحقيبة التي كانت تحملها بدت مألوفة.
ناديت، بصوت مرتفع قليلاً:
"تيتا صباح!"
لكنها لم تلتفت. لم تتوقف. وكأنها لم تسمعني.
ساورني الشك: هل هذه هي جدتي فعلًا؟ أم أنها مجرد امرأة تشبهها كثيرًا؟
قررت الاتصال بها لأتأكد… رفعت الهاتف، طلبت رقمها، وانتظرت.
لكنها — أو هي — أغلقت المكالمة مباشرة، دون أن ترد.
هنا بدأ الشك يتسلل إليّ ببطء، يخلط بين المعقول وغير المعقول.
شعرت بفضول لا يمكن تجاهله، فركبت دراجتي وانطلقت نحو الزقاق الذي سلكته السيدة. هو طريق معروف، ينحدر نزولًا نحو البحر، على جانبيه أبواب جانبية لفيلات مؤجرة، معظمها مسكونة في الصيف من قبل غرباء عن القرية.
وصلت بعد لحظات، وفي اللحظة التي دخلت فيها الزقاق، سمعت صوت باب يُغلق خلف أحد الجدران.
اقتربت من الباب، كان خشبيًا مطليًا بالأبيض، عليه ورقة قديمة نوعًا ما كُتب فيها:
"فيلا للإيجار — للاستفسار: [رقم الهاتف"
سجلت الرقم في هاتفي تلقائيًا، كأنني مدفوع بشيء غريزي لا تفسير له. وقفت للحظة أراقب، أتمعن، أبحث عن أي أثر. لكن لا حركة، لا صوت، لا دليل يؤكد أو ينفي ما رأيته.
عدت للاتصال بجدتي. مرة أخرى، أغلقت الخط دون رد.
هل كانت تتعمد؟ أم أن الأمر مجرد صدفة؟
وهل المرأة التي رأيتها… كانت فعلًا جدتي؟
لم أعد واثقًا. لكن شيئًا ما في داخلي كان يقول: هذا ليس مجرد تشابه.
نسيت الموضوع وعدتُ للعمل في المطعم لأوصل الطلبات، ومن هناك مررت على فيلتنا، وهي فيلا مطلة على البحر من الجانب الآخر للقرية. وجدت جدتي صباح تستحمى، وطلعت ببشكير الحمام، وكان جسمها شبه عاري وشعرها المبلول ينسدل على كتفيها. اطمأنت على صحتها، وسألتها إن كانت قد خرجت من المنزل، فأجابت بالنفي. وبالنسبة لهاتفها قالت إنها لم تسمعه لأنه كان في وضع الصامت.
أنهيت يوم العمل ذاك، وعندما فتحت حسابي على الفيسبوك ليلاً، ظهر لي اسم شخص من خلال رقم الهاتف الذي سجلته: طارق السمسار، ينشر على حسابه الشاليهات والفيلات التي تؤجر بالليلة أو لفترات للمصطافين الوافدين إلى قريتنا طمعًا في بعض الراحة. وعند تصفحي لحسابه الشخصي، تأكدت أن الفيلا التي لحقت بها السيدة على بابها كانت مؤثثة ومعدة للإيجار، وهي معروضة لهذا الغرض مع الرقم الذي عُلّق على أبواب الفيلا.
تمر الأيام، وكلما صادف تواجدي بالقرب من مكان تلك الفيلا، أبقيت على تركيز تام، وعيني تنصب على مداخلها الأمامية والجانبية. وفعلاً، شاهدت ذات مرة مشهداً مريباً استوقفني بالقرب من تلك الفيلا. في البداية، رأيت رجلاً ضعيف البنية، أسمر اللون، بأوشام على ذراعيه، ينزل من دراجة نارية قديمة الطراز. وضعها أمام الفيلا، ثم دخل من الباب الأمامي وهو يحمل كيس نايلون أسود. التفت إلى اليمين واليسار، ثم فتح الباب ودخل.
بعد دقائق، خرجت امرأة من مخزن على بعد فيلتين من الفيلا التي دخلها الرجل، ولحقت به من الباب الجانبي.أعرف هذه المرأة، انها متزوجة و لها طفلين، هدى الكوافيرة و هي اصلا ضيفة في بيت والدتها العجوز، الأبواب أغلقت، كأن شيئاً ما يحدث، مختلف عن مجرد سمسرة العقار. انتابني الفضول، وأردت التأكد من أمر في خلدي: سيدة ثانية أراها تدخل هذه الفيلا، وشكل الرجل أثار الشك والريبة.
تتشابه المساكن في قريتنا، وطراز هذه الفيلا لن يكون مختلفاً عن الأخريات. سبق لي أن عشت تجربة سرقة الفواكه من أشجار الجيران وتسلق أسوارهم، وسور هذه الفيلا ليس بالمرتفع. قفزت، فوجدت نفسي أعلاه، واطلعت على الحركة في الحديقة؛ لم يكن هناك أحد. نزلت واختبأت بسرعة حتى لا يراني أحد، والتقطت أنفاسي.
كان هناك باب خشبي مغلق للمنزل بالداخل، لكن الشبابيك مفتوحة ومحمية بأسوار حديدية. سمعته صوتاً من الداخل، داخل إحدى الغرف. تبعت الصوت من خلال الشبابيك، ووصلت إلى غرفة يبدو أنها الصالون. كان هناك رجل يجلس على الأرض ويخرج من الكيس قوارير خمر خبأها عن المارة، بينما تجلس على كنبة بجانبه المرأة التي رأيتها في الخارج. كانت ترتدي جلبية موردة بيتي خفيفة وشبشباً، كأنها كانت على الشط.
فجأة، بعد بعض الحوار والوشوشات، رأيت المرأة تخلع عن نفسها الجلبية، ليظهر جسمها الأسمر.
كانت المرأة ذات لون أسمر دافئ، جسدها ممتلئ ومكتنز بمفاتن طبيعية. طبقات بطنها تبرز بسلاسة ونعومة، كأنها منحوتة من الحرير والظل، تضيف لها دفء وحيوية. ذراعاها ممتلئتان ومتمايلتان بانسيابية، وخصرها غير محدد بدقة، ما يزيدها طابعاً إنسانياً حقيقياً، بعيداً عن المثالية المصطنعة. كل حركة لها تنبض بالثقل والمرونة معًا، فتشعر وكأن الجسد نفسه يروي قصته، بكل تفاصيله الطبيعية ودفئه الجسدي، هدى طلعت أجمل بكثير و هي عارية، كانت تلبس الجلبية على جسمها عاري.
كانت عيوني تكاد تخرج من محاجرها، لم أصدق ما أرى. هدى، تلك المرأة المتزوجة التي يعيشها زوجها في رفاهية وأمان، شخص محترم يعمل في مصلحة عمومية، ولديها طفلان صغيران، ولد وبنت في عمر الست والثمان سنوات تقريبًا، لم أكن أتصور أنها في موقف كهذا. جدتها صديقة جدتي، وهذا جعلني على معرفة بالعائلة، لكن ما رأيته الآن كان صادمًا بحق.
الرجل الذي ترافق معها داخل الغرفة بدى سرسجي الملامح، قاسٍ، واضح عليه أثر السجن والخشونة، بعينيه الغامضتين وتلك التحدبات على وجهه التي تحكي قصص العنف والخبث. أما هدى، فكان جسدها يتلألأ بالعرق تحت ضوء الغرفة الخافت، كل حركة لها تنبض بالحياة والحرارة، وكل اهتزاز يجعل ضوء المصباح يلمع على جسدها الأسمر الممتلئ، المشدود والمفعم بالأنوثة الطبيعية، مع طبقات من اللحم تضفي عليها طابعًا إنسانيًا وواقعيًا.
كانت أصوات أنفاسها واهاتها تتخلل المكان، وكأنها تحاول الصراخ في صمت، فارتفع الصوت حين تبادلا القبل، حتى شعر كل منهما بالحرج من أي متطفل، فقررا تشغيل أغنية من هاتف أحدهما، لتغطي الموسيقى على الشهوات الأنثوية الصارخة التي كانت تهز الغرفة. كل حركة، كل همسة، كانت تضيف توترًا دراميًا للمشهد، كأن الزمن توقف للحظة، وكأن الغرفة تحولت إلى مسرح يجسد سرًا ممنوعًا، بعيدًا عن أعين العالم.
جسدي تفاعل، أشعر بقضيبي يخترق ملابسي الداخلية، ما اراه من قبلات يملؤها الشغف و تلامس كفي هذا السرسجي مع أثداء هدى، جعلا جسمي يرتجف شهوة، أشعر اني برغبة في التهام جسدها بزبري الذي يصل طوله 16 صم ، أطول من الذي يملكه هذا المتلاعب بجسمها، يرتشف رحيق وردتها، يضع رأسه بين فخذيها و يحرك لسانه عليه من الخارج، كأنه يلتهمه، و هي كالفريسة تتلوى مستسلمة و تحرك يديها ناحية رأسه تجذبه نحوها حتى يلتصق بها و يصبحا كتلة واحدة، كانت تحرك رأسها فوقا و يمينا و يسارا و عيونها ترتفع حتى تصبح بيضاء بدون بؤبؤ، كأنها تموت في ثواني و تعود للحياة بهزات بطنها و تحركات افخاذها و سيقانها التي تحكم بها السيطرة على طارق السمسار، كلها لحظت حتى اضحت تتوسل اليه ان ينهي ما بدأه بصوت مرتفع كأنها تتألم من شدة النشوة، تطلب منه أن يفرغ حمولاته الساخنة في أحشائها و يتركها تسير في سبيلها تمارس حياتها العادية، و طارق لم يرفض توسلاتها طويلا، افترش شفرات كسها الأسمر قليلا، قبل ان يدخل زبره الصغير الحجم في الطول لكن عريض داخلها، و يتحرك فوقها بنصفه العلوي و ينهال على شفتيها بالقبل قبل ان ينتفض و يتلوى و يصرخ ، يبدو ان صديقنا قذف منيه بداخل هدى و انهى في دقائق ما بداه.
تبلل سروالي دون ان ألمسه، هي المرة الأولى التي ارى فيها علاقة جنسية امام أبصاري، يفصل بيننا هذا الشباك الحديدي و بعض الأثاث، خرجت بشرعة قبل أن يفتضح امري و غادرت المكان على متن دراجتي، مباشرة إلى المنزل للإستحمام و التنظف من المني الذي خرج مني اثناء مراقبة طارق السمسار، تحت المياه الباردة مارست العادة لمرة و الثانية على صور هدى و هي فريسة تحت طارق السمسار، أطلت في ضربي العشرة اكثر مما استغرقه السرسجي في علاقته مع هذه البطة الجميلة، أنهيت يومي مرهقًا، وكنت أشعر بثقل قدميّ وصداع خفيف يطرق رأسي، جلست على أريكتي أستريح لحظة، أستمع لصوت البحر البعيد يلاطف النوافذ، وحاولت أن أنسى المشاهد الغريبة التي رأيتها مؤخرًا. تناولت وجبة خفيفة، وشربت فنجان قهوتي المعتادة، ثم فتحت نافذتي لأتنفس الهواء المسائي، وأحاول أن أفرغ عقلي من كل التوتر، مع كل رمش أرى هدى و جسدها العاري كم أشتهيها ..
منذ ذلك اليوم، صرت أزور الزقاق نفسه في كل وقت ، الصباحيات عند العمل كل مساء، بعد أن أنهي توصيلاتي. أمرّ من هناك ببطء، أركن دراجتي في الظل، وأراقب بصمت.مرّ أسبوع، ثم آخر. لم أرَ شيئًا. لا سيارة، لا امرأة، لا أثر. بدأت أشكّ في نفسي: هل كنت أتوهم؟ هل اختلطت الأمور عليّ؟ لكن ذلك الشعور بداخلي لم يخفت، بل كان يزداد ثِقلاً.
في وقت القيلولة — حين تكون الشمس في أوجها، والقرية كلها غارقة في صمت ثقيل، يكسره أحيانًا صوت مروحة قديمة أو نباح كلب نعسان.
كنت أركن دراجتي تحت شجرة جافة، وأجلس بعيدًا، في ظل حائط متآكل، أراقب أبواب الفيلا من بعيد، كأني أوصل طلبات كالمعتاد، بعيدا عن أي شكوك قد تحوم حول تواجدي بالمكان، ثم، في ظهيرة خانقة، شعرت بشيء يتحرك داخلي.
بأم عيني ، أرى تلك الدراجة النارية بصوتها المزعج تتوقف امام الفيلا، ينزل منها ذلك السرسجي طارق بكيس أسود شبيه بالمرة الماضية، دخل بنفس الحذر و اغلق من وراءه الباب ، كلها دقائق و رأيتها.
السيارة ذاتها، تاكسي قديم بلون باهت. توقفت ببطء عند طرف الزقاق، ونزلت منه امرأة بذات الهيئة، نفس المشية، نفس الحقيبة التي كانت تحب تيتا صباح حملها في خروجاتها الخفيفة.
هذه المرة لم أتردد في تأمل ملامحها. لم تكن مجرد شَبَه.
كانت هي.
كانت الشمس تضرب رأسي مباشرة، والعرق يتصبب من جبيني رغم أنني بالكاد تحركت.
وقفت أمام السور الخارجي للفيلا، يدي على الحافة الخشبية الخشنة، أراقب المكان من بين فروع الشجرة الكثيفة التي خبّأتني لأيام. كانت الساعة تقارب الثانية بعد الظهر — وقت القيلولة، حين تسكن الشوارع، ويصير الهواء أثقل من العادة.
ترددت.
نظرت يمينًا ويسارًا.
لا أحد. لا حركة. لا صوت سوى طنين ذبابة تحوم بإصرار حول وجهي، كأنها تحاول صرفي عن قراري.
بلعت ريقي بصعوبة. قلبي كان يدق في صدري بطريقة غير طبيعية، كأنه ينبّهني، يحذرني، يترجاني أن أتراجع.
لكني وضعت يدي على الحافة… وقفزت.
قدماي لامستا الأرض في الداخل بخفة، لكن الهبوط لم يكن سلسًا. شعرت برعشة تسري في جسدي، ليس من الألم، بل من التوتر. من شعور أنني دخلت شيئًا ممنوعًا، شيئًا لا رجعة منه.
وقفت في الظل، أحاول التقاط أنفاسي. يداي ترتجفان. أطرافي باردة رغم حرارة الجو.
كنت أعرف أنني تخطيت خطًا ما… لكن الفضول — أو ربما الخوف من الحقيقة — كان أقوى من أي منطق.
مشيت ببطء على أطراف قدمي، أقترب من باب الحديقة الخلفي، الذي لاحظت وجوده من قبل. كان خشبيًا، نصفه مغطى بالطلاء الأبيض المتشقق، وفيه فتحة صغيرة بالكاد ترى منها الداخل.
اقتربت أكثر… وضعت يدي على المقبض.
لحظة واحدة فقط، جمّدتني.
"شو لو كانت مو هي؟ شو لو طلعت؟ شو لو شافتني؟ شو رح أقول؟"
ثم، فجأة… فتحت الباب.
داخلي كله كان يرتجف. كنت أتنفس بصعوبة، وكأن الهواء في هذا المكان لا يصل للرئتين. كل شيء فيني كان مشدودًا — كتفيّ، رقبتي، حتى فكي السفلي.
دخلت.
وما إن دخلت، حتى أحسست أني لم أعد كما كنت.
كأن شيئًا في العالم تغيّر.
كأنني الآن داخل حلم... أو كابوس.
الجزء الثاني
داخلي كله كان يرتجف. كنت أتنفس بصعوبة، وكأن الهواء في هذا المكان لا يصل للرئتين. كل شيء فيني كان مشدودًا — كتفيّ، رقبتي، حتى فكي السفلي.
دخلت.
وما إن دخلت، حتى أحسست أني لم أعد كما كنت.
كأن شيئًا في العالم تغيّر.
كأنني الآن داخل حلم... أو كابوس.
جدتي تجلس على كرسي خشبي بجسدها المملوء، و تتكئ على احدى ركبتيها و تقوم بمص قضيب طارق، مفاجأة !!!
نعم ، كانت مفاجاة صادمة، تمنيت ان لا تراها عيني،زاوية نظري كانت مناسبة للرؤية و السماح، رؤية جدتي و هي تلعق ذكر هذا السرسرجي و سماعها و هي تطلب منه الإسراع لأنها لا تستطيع المكوث طويلا خارج البيت و إلا ستثير شبهات، و هو يتأوه بصوته المبحوح و يقول لها بالحرف، مصي يا شرموطة اااه حاضر حخلص بسرعة ، و ايديه داخل جلبابها الأسمر و كان يتلاعب بثدييها العظيمين من فوق الثياب، أخرجت هاتفي من جيبي و قمت بالتقاط فيديو طوله حوالي 30 ثانية، ثم تراجعت ، لأعود أدراجي، بنفس الحذر، تراجعت للخلف و عدت للخارج، شعرت بدوار و دموع مخزنة نزلت على خدودي ، شعرت اني اريد ان أستفرغ مابأحشائي، و اول ما خرجت من باب الفيلا حتى قمت بهذا، أشعر بالاشمئزاز تجاه طارق السمسار، لم أتقبله كشخصية في هذا المجتمع، رأيت انه عالة، خريج سجون ، وسخ من داخله و في جسمه، أشعر بالقرف تجاهه و اليوم تأكدت من علاقته بجدتي العجوز التي لطالما مثلت في نظري رمز العفة، نجحت في تربية أبناءها بعد وفاة جدي منذ ما يقارب 15 عام، انهارت صورتها امامي، كل ما أغمض عيوني ارى صورتها تهتز امامي ، اراها في مشهد لا يتناسب مع عمرها، و هي تمص زبر الغريب السمسار عنتيل النسوان المتزوجة في حالة هدى، و النسوان العجوز في حالة جدتي صباح و ما خفي أعظم.
عدتُ إلى بيتنا مثقلاً بالدوار، وكأن رأسي صندوقٌ من الرمل، يتمايل مع كل خطوة.
في طريقي من الشارع إلى الداخل، كنت أحاول تصديق أن ما رأيته قد حدث فعلًا. خطواتي لم تكن تسير إلى الأمام بقدر ما كانت تنسحب إلى الوراء… إلى الوراء في الزمن، في الذكريات، في الطمأنينة التي كانت لي ذات يوم، قبل أن تختلّ.
أشعر بقشعريرةٍ تنخر عظامي، لا أعلم إن كان السبب جسديًا أو شيئًا أعمق. شيء يسري فيّ كالخيانة، شيء لا اسم له.
أغلقت الباب خلفي ووقفت في الصالة لحظة. لم يكن في البيت أحد.
سكون.
لكن السكون هذه المرة لم يكن مُريحًا. كان خانقًا، مُ***ًا، يحمل صدى صوتي الداخلي وأنا أردد لنفسي:
"مش ممكن... مش ممكن اللي شفته حقيقي."
جدتي؟ جدتي على علاقة بطارق؟
طارق... ذو الملامح الحادة، العيون التي لا تثبت في مكان، الابتسامة التي تسبقها ريبة وتليها ريبة.
اتصلت بالمطعم، اختلقت مرضًا في صوتي، وطلبت إعفاءي من نوبة المساء. لم أستطع العمل وأنا أحمل هذا في رأسي. عدت إلى البيت، رأسي مليء بأسئلة لا إجابة لها.
دخلت الحمام، خلعت قميصي، ونظرت إلى المرآة.
لم أتعرف على نفسي.
شخص بملامح ذابلة، عينين متعبتين، وشفاه ترتجف.
ثم بكيت.
بكيت كما لم أبكِ منذ سنين. لم تكن دموعًا فقط، بل نحيبًا داخليًا، انهيارًا حادًّا بلا صوت.
انكمشتُ تحت الدش، كأنني أحاول أن أُفرغ من رأسي صورة لم أطلب رؤيتها.
خرجت من الحمام وجسدي لا يزال يرتجف، واتجهت إلى غرفة جدتي.
هي ضيفتنا الصيفية الدائمة.
تأتي كل عام مع مطلع يونيو، وتحمل معها أشياءها الصغيرة: حقيبة جلد بنية، وعلبة بلاستيكية مليئة بالأدوية، وعلبة معدنية صغيرة فيها كعك يابس من صنع يديها.
تسكن الغرفة المجاورة لغرفتي، وتعيد معها في كل صيف شعورًا بالطفولة... كانت جزءًا من روتين العائلة، من ذاكرة الصيف والمراوح والضحك الخفيف بعد العشاء.
دخلت غرفتها الآن وكأنني أزورها لأول مرة.
كل شيء فيها كما هو: مروحة السقف التي تصدر صريرًا خفيفًا، غطاء السرير المخطط، صورتها وهي شابة على الرف، زجاجة العطر التي لا يتغير نوعها أبدًا، رائحة الثياب النظيفة التي تشبه رائحتها.
جلست على حافة السرير. لم أكن أبحث عن إجابات، بل عن مَخرج.
كيف يمكن لشخص يسكن في قلبك بهذه الراحة، أن يُحدث فيك كل هذا الزلزال؟
كيف يمكن أن تُعيد لحظة واحدة تشكيل فهمك لشخصٍ أحببته عمرك كله؟
هل كانت هناك حياة أخرى لها؟ أسرار لا نعرفها؟
أم أنني أنا المخطئ، أنا الذي لم أفهم المشهد كما يجب؟
أغمضتُ عينيّ واستحضرت كل لحظات الصيف التي قضيناها سويًا.
ضحكتها الخفيفة وهي تسقي الزرع، قصصها القديمة عن شبابها في القرية، طبختها المفضلة التي لا يُجيدها أحد سواها، خصلات شعرها البيضاء المربوطة بإحكام، صوتها وهي تناديني:
"قوم افطر يا حبيبي، ما يصير تنام لهي الساعة."
كنت أعتقد أنني أعرفها.
لكن الحقيقة؟
أنا لا أعرف إلا ما كانت تُريدني أن أعرفه.
دقائق مرت وأنا أقف في منتصف الغرفة، ما زلت أتنفس بثقل كمن خرج لتوّه من تحت الماء. عقلي يركض في دوائر لا تنتهي، أفكار تصطدم ببعضها كأنها في غرفة ضيقة، وقلبي… لا يهدأ.
ثم سمعت صوت الباب يُفتح.
خطواتها بطيئة، معتادة، لا تحمل ارتباكًا.
دخلت الغرفة دون أن تنتبه لوجودي أولًا، تضع كيسًا صغيرًا على الطاولة، يبدو أنها اشترت بعض الفاكهة أو شيئًا من السوق. كانت ترتدي ثوبها القطني البسيط، وشعرها مشدود إلى الوراء كالعادة، المنديل الأبيض الذي يغطي رأسها تحته بعض خصلات شاردة.
رفعت عينيها، ثم تجمدت لحظة وهي تراني واقفًا هناك.
– "إنت هنا؟ خوفتني… ليش واقف كده؟"
لم أجب فورًا. نظرت إليها، وقلبي يعلو ويهبط كأن في صدري حربًا أهلية.
ابتسمت تلك الابتسامة الصغيرة التي طالما كانت تعني "كل شيء تمام"، لكنها اليوم بدت وكأنها قناع رقيق يغطي شيئًا آخر، شيء أعرفه الآن، أو أظن أنني أعرفه.
– "كنت بس... قاعد أفكر شوي."
قالت وهي تزيح الطرحة قليلاً من على جبينها:
– "تعبان؟ شكلك مصفّر. كلّمت شغلك؟"
أومأت برأسي:
– "إي، قلت لهم ما أقدر أداوم اليوم."
سادت لحظة صمت ثقيلة.
كانت تنظر إلي، وتبدو طبيعية تمامًا. لا شيء في تصرفاتها يشير إلى أنها تعرف أنني رأيت شيئًا.
أما أنا، فكان رأسي يعجّ بألف سؤال، وألف إجابة متضاربة.
أواجهها؟ أقول لها ماذا رأيت؟ أم أبتلع كل هذا وأصمت؟
لو واجهتها، ماذا سأقول؟
هل أبدأ بكلمة "رأيتك"؟
هل من حقي أن أسألها؟
وهل ستصدق أنني لا أقول ذلك من باب الفضول، بل من باب الخوف، والخذلان، والارتباك؟
لكن إن صمتُّ… هل أقدر على أن أعيش كأن شيئًا لم يحدث؟
هل سأستطيع أن أنظر إليها بنفس النظرة مرة أخرى؟
أم أن الشك سيأكلني حيًّا، كل صباح، كل مساء، كل مرة تخرج من الباب؟
جلست على طرف السرير، وأنا أنظر إلى الأرض.
هي كذلك جلست في كرسيها المعتاد، تنظر إليّ.
ثم فجأة، قالت بهدوء:
– "في شي بخاطرك؟ إحساسك مو مريحني…"
رفعت عيني إليها.
نفس الوجه، نفس الملامح، لكن خلفها الآن مئات الاحتمالات.
كأنّ الكلمات وصلت إلى حافة لساني… ثم توقفت.
قلت بهدوء، محاولًا أن أبدو عاديًا:
– "لا… يمكن بس شفت شي خلاني أفكر."
نظرت إلي مطولًا، ثم تنهدت.
لم تسألني "وش شفت؟"، وكأنها تعرف تمامًا ما الذي أعنيه… أو ربما تتوقع.
أو ربما، وأنا فقط من يتخيل كل هذا.
وقفت بعدها بهدوء، وبدأت بترتيب بعض الأغراض على الطاولة.
حديثها توقف، وكذلك حديثي.
لكن في الغرفة، كانت هناك جملة غير منطوقة، جملة ثقيلة، مُعلقة بيننا، تنتظر من يطلقها أولًا.
وأنا… لم أكن مستعدًا. لا للمواجهة، ولا للصمت.
فجلست هناك، أراقبها تتحرك، وأحاول أن أتذكر:
هل كل شيء رأيته… كان حقيقة؟
أم أن بعض الحقائق لا تكون كاملة إلا إذا قيلت بصوت أصحابها؟
لم أستطع البقاء في المساحة الرمادية أكثر.
استجمعت قواي بصعوبة، كأنني أخرج كل كلمة من حفرة في صدري، وقلت لها:
– "جدتي... من طارق؟ وش علاقتك فيه؟"
توقفت يدها عن الحركة، نظرت إليّ وكأنها لم تسمعني جيدًا.
ثم قالت، بصوت فيه نبرة دفاع فطري:
– "طارق؟ تقصد طارق الأسمر؟ السمسار؟ هذا بس يتابع أجارات البيوت حق أخوالك في القرية، ليه تسأل؟"
نظراتها بدأت تهتزّ.
حاولت أن تبدو هادئة، لكن كان واضحًا أن السؤال اخترق درعها.
وجهها، الذي عرفته مطمئنًا كل عمري، كان الآن يتحول ببطء... وكأن شيئًا أثقل من السؤال يتكشّف داخله.
قالت محاولة تحويل دفة الحديث:
– "من وين تعرفه؟ في شي؟ انت ليش تسأل أصلاً؟"
لم أستطع التحمّل أكثر.
انفجرت.
الصوت الذي كنت أخنقه خرج أخيرًا، لا ككلمة... بل كدموع، كنشيج.
وقفت، ومددت يدي إلى الهاتف، فتحته، وشغّلت الفيديو.
أنا خلف الحائط، هما داخل بيته.
ضحك، همس، اقتراب مبالغ فيه. لغة جسد لا تقبل التأويل.
كل شيء كان واضحًا.
صوت الفيديو امتزج بصوت بكائي.
أنا لا أبكي فقط من أجل ما رأيت، بل من أجل ما تهدم داخلي.
كل شيء كان كبيرًا جدًا على قلبي: الخذلان، الصدمة، التضارب بين صورتها في رأسي وواقعها أمامي.
هي كانت تتابع الفيديو بوجه شاحب، جسدها لا يتحرك.
ثم انطفأ الهاتف.
رفعت وجهها إليّ… وبدأت تبكي.
بكاء صامت أولًا، ثم ارتجاف، ثم صوت مكسور يشبه صوت اعتراف متأخر:
– "أنا آسفة… ما كنت أقصد. ما أعرف كيف وصلت لهالمرحلة، كيف انجرفت… كيف تركت نفسي أضعف.
أنا غلطت… غلطت يا وليدي.
بس ما كنت ناوية... ما كنت ناوية أكون هناك، ولا أكون هي."
ركعت أمامي، يداها ترتجفان وهي تمسك بيدي:
– "أنا كبيرة… ومو المفروض أبرر. بس أقسم لك، قلبي كان فاضي. الوحدة توجع، وتخلي الواحد أحيانًا يصدّق أي اهتمام، أي كلمة… حتى لو جت من شخص مثل طارق."
أنا لم أقل شيئًا.
كنت ما أزال أبكي.
وهي كانت تبكي معي.
وكل الغرفة تحوّلت إلى بركة من الوجع، لا أحد فيها أقوى من الآخر.
لا أحد يملك إجابة.
قالت وهي تمسح دموعها بكمّ ثوبها:
– "أرجوك… أرجوك لا تقول لأحد.
استر عليّ، زي ما سترت عليك وأنت صغير.أنا غلطت، بس ما أنا شريرة، ولا خبيت شي عنكم عمري كله، غير هالغلط.
أرجوك لا تكسرني."
كان هناك شيء مُفجع في نظرتها…
امرأة تهدمت من الداخل، لا تدافع، لا تبرر، فقط تطلب رحمة.
لم أكن أعلم ماذا أفعل.
كل ما فعلته أنني جلست بجانبها على الأرض، ونحن نبكي، بصمتٍ ثقيل، كأننا نحاول نفض الغبار عن من تبقى فينا.
لا يوجد أحد كامل، أعرف ذلك.
لكن بعض الأخطاء... تهز جدران البيوت.
والآن، بيتي من الداخل صار هشًا،
وكل ما أملكه… أن أحاول ألا أكرهه.
جلستُ إلى جوارها، أشعر كأن جسدينا، رغم المسافة الصغيرة، بينهما جدارٌ من زجاج مكسور. كل كلمة نحاول قولها تجرح أصابعنا، وكل دمعة تلمع بيننا مثل شظية.
كانت هي تمسح دموعها على عجل، وتتنفّس بصوتٍ متقطّع، فيما أنا أنظر إلى الأرض، أحاول أن أُعيد ترتيب داخلي كما يُعيد المرء ترتيب غرفة بعد عاصفة.
لم أعد أرى “جدتي” التي كنت أعرفها فقط، ولا تلك الصورة التي كانت ترسمها لنفسها في ذاكرتي، بل امرأة أخرى: امرأة بكت وحكت، واعترفت بوحدتها. امرأة ليست قديسة ولا شيطانة، بل بشر… مثلي.
كان هناك صراع في قلبي: بين الرغبة في معاقبتها، والرغبة في احتضانها، والرغبة في أن أهرب من كل هذا. لكن وسط كل هذا، شيء صغير بداخلي كان يقاوم: شيء يرفض أن يكرهها، شيء يتذكّر الطفولة ورائحتها وهي تسقيني الشاي.
رفعتُ رأسي إليها أخيرًا. كانت عيناها تبحثان في وجهي عن حكمٍ أو رحمة. لم أملك حكمًا، ولا رحمة كاملة، لكنني وجدت نفسي أمدّ يدي إلى يدها. كانت ترتجف، لكنها حين شعرت بيدي استقرت قليلًا.
همستُ بصوتٍ خافت، بالكاد خرج:
– "ما أعرف… ما أعرف أقول لكِ إيش. بس… ما أبغى أكرهك."
أطبقت يديها على يدي كأنها تمسك بطوق نجاة. دموعها ما زالت تسيل، لكن عينيها خفَّ فيهما الرعب قليلاً، كأنها وجدت في كلمتي نافذةً صغيرة في هذا الجدار.
سادت لحظة صمت طويلة، لا هي فيها اعتذار كامل ولا غفران كامل. كانت مساحة رمادية، لكنني كنت أتنفس فيها للمرة الأولى منذ ساعات.
نظرتُ إلى النافذة. الشمس كانت تميل إلى الغروب، والضوء البرتقالي يدخل إلى الغرفة ويكسو الأثاث، صورها القديمة، وكل ما حولنا بلونٍ دافئ. لونٌ يشبه الصفح، لكنه لا يمحو الوجع.
شعرتُ أن البيت نفسه يتنفس معنا، يتألم معنا، لكنّه لا ينهار. الجدران ما زالت قائمة، حتى لو تصدّعت.
قلتُ لها بعد لحظة، بصوتٍ أهدأ:
– "خلينا نحاول… بس ما أقدر أعدك اليوم بأي شي. أنا محتاج وقت."
أومأت برأسها، ودموعها ما زالت تنزل بهدوء.
قالت:
– "خذ وقتك… أنا اللي لازم أتحمّل."
لم أعد أملك أكثر من ذلك. لم أملك سوى أن أجلس قربها، في هذا المساء الثقيل، وأترك الدموع تتساقط. لم أعد أعرف إن كنت سأغفر أو سأنسى، لكنني عرفت شيئًا واحدًا:
أننا، أنا وهي، خرجنا من تلك اللحظة مختلفين.
وأن الهشاشة، رغم قسوتها، قد تكون أول خطوة نحو أن نرى بعضنا على حقيقتنا… بلا أقنعة
– "اقطعي علاقتك بطارق.. اتصلي عليه وبلّغي أنه ما تريدي أي اتصال منه."
نظرت إليّ جدتي بعيون ثقيلة، مليئة بعبء سنين لم تُحكى، ثم أومأت ببطء وكأنها تحاول أن تثبت نفسها على قرارها.
رفعت الهاتف، وكانت الأصابع ترتجف قليلاً، لكنها ضغطت على الأزرار بثبات.
سمعت صوتها وهي تقول: "طارق، هذا قرار نهائي. رجاءً، لا تتواصل معي بعد الآن."
وضعت السماعة بهدوء، ثم التفت إليّ وقالت بصوت ضعيف:
– "خلصت."
لكن في عينيها، كان هناك شيء لم يُقال بعد، كان مثل سرّ كبير يتوارى خلف الحروف والكلمات.
رغم هذا القرار، لم أستطع أن أتوقف عن مراقبة طارق.
كنت أتابع تحركاته من بعيد، كيف يختفي في زوايا المدينة، كيف يبتعد عنه كأنه يعلم أنه خسر معركة لم تبدأ بعد.
وفي كل مرة يمر بها، تتغير نظرتي لجدتي.
لم تعد فقط تلك المرأة التي أحبها، بل أصبحت أكثر تعقيدًا، أكثر غموضًا، امرأة تحمل في داخلها صراعات أكبر مما ظننت.
كنت أشعر بالخذلان، لكن أيضاً بالشفقة.
صرت أرى جدتي بعينين جديدتين: لا كضحية أو خاطئة فقط، بل كإنسانة تحاول النجاة من وحدتها بطرق لا أفهمها بالكامل.
وهكذا، استمرت الأيام، وأصبحت مراقبتي لطارق وقلقي على جدتي جزءًا من روتيني الصامت، حيث ينتظر القلب أن يجد طريقًا للصفح، وللفهم، وللقبول.
مرت الأيام، وأصبحت مراقبتي لطارق جزءًا من روتيني اليومي، مثل نفس يتكرر بلا ملل.
دخولي إلى الفيلا لم يعد حدثًا غريبًا، فقد أصبحت المكان فارغًا من أي محتوى يستحق الانتباه، باستثناء طارق وقصصه المظلمة التي تتكشف ببطء.
كنت أبحث عن مفتاح يُفسر كل شيء، عن سر أكبر من مجرد علاقات عابرة.
طارق، الرجل الذي عرفته فقط بوجهه الحاد وابتسامته الغامضة، كان يحمل في جعبته قصصًا أخرى، قصصًا عن علاقات متعددة مع نساء متزوجات، كان هذا العالم خفيًا، مظلمًا، لكنه الآن بدأ يفتح أبوابه لي أمامي.
منذ فترة وأنا أعيش هاجسًا اسمه طارق السمسار. لم يعد مجرّد رجل عابر في الحيّ، بل صار لغزًا يثير في داخلي الريبة والفضول. أراقبه في الليل كما في النهار، أتابع خطواته، حركاته، صمته وكلامه. كنت أتسلّل إلى الفيلا التي يملكها وكأنها فضاء مهجور لا يسكنه أحد غيري، أتجوّل بين الغرف المظلمة والردهات الصامتة، أشمّ رائحة الغبار التي علقت بالأثاث، وأسمع صدى خطواتي يتردّد بين الجدران العالية. كنت أشعر للحظة أنّني صاحب المكان، لكنّ الخوف من أن يُفتضح أمري لم يكن يغادرني.
كانت الفيلا غارقة في صمت ثقيل، لا يقطعه سوى خشخشة خطواتي المترددة على الأرضية الرخامية. الضوء الخافت القادم من الشارع يتسلل عبر النوافذ الكبيرة فيرسم ظلالًا متكسّرة على الجدران، وكأنها عيون خفية تراقبني. قلبي كان يخفق بسرعة، لكن فضولي كان أقوى من خوفي. تقدّمت بين الأثاث الفخم الذي غطاه الغبار، ولمست بأطراف أصابعي المقاعد الجلدية الباردة، كأنني أختبر وجودي في عالمٍ ليس لي.
في تلك اللحظة، شعرت بنسمة غريبة تمر من خلفي، وكأن أحدًا يزفر بصمت. تجمّدت في مكاني. حاولت أن أقنع نفسي أنني أتخيّل… لكن صدى خطوات خافتة قادم من الممر الطويل أيقظ كل ذرة رعب داخلي. التفتُّ بسرعة، وإذا بظلٍ طويل ينساب على الجدار، يقترب شيئًا فشيئًا ..
خرج طارق من العتمة.
كان يقف هناك، عيناه تقدحان شررًا، كتفاه العريضتان تسدّان الطريق، وملامحه مشدودة بغضبٍ مكتوم. بدا كوحشٍ اصطاد فريسته أخيرًا. صوته اخترق السكون بنبرة حادة:
ــ "شو عم تعمل هون؟!"
ارتجفت الكلمات في حلقي، لم أجد ما أجيب به. يداي الباردتان ارتعشتا وأنا أبحث عن أي مخرج، لكن صوته ارتفع أكثر، يقترب مني بخطوات بطيئة ثقيلة، كل خطوة منه كانت تسحق الأرض تحت قدميه وكأنها تحكم عليّ بالهلاك.
وفجأة، مدّ يده وأمسكني من ذراعي بقوة جعلتني أشعر أن العظم سينكسر. حاولت أن أصرخ، أن أتبرأ، أن أجد أي عذر، لكنه لم يكن يسمع سوى صدى غضبه. وجهه اقترب من وجهي، ورائحة تبغه الممزوجة برائحة العرق تلفحني. عيناه كانتا مرآة غاضبة تعكس صورتي مذعورًا، صغيرًا أمام جبروته.
ثم، بلا أي مقدمات، هوى عليّ بلكمة كادت تطيح برأسي. سقطت على الأرض، وارتجفت الأرضية الباردة تحت وجهي. كان كل شيء يلتف من حولي: الأثاث، الظلال، حتى أنفاسي. سمعت صوته وهو يزمجر من فوقي:
ــ "تتجسّس عليّ؟! تفكر نفسك ذكي؟"
ذلك المشهد لم يكن مجرد مواجهة، بل إعلان حرب… من تلك اللحظة صرت أعرف أن حياتي تغيّرت، وأن مراقبتي له لن تمرّ بسلام بعد الآن.
كنت ما أزال على الأرض بعد أن دفعني بقوة، نهضت ألتقط أنفاسي المقطوعة، بينما هو يقف أمامي كجدار لا يُهزم، عيناه متّقدتان كجمرتين. ساد صمت ثقيل بيننا لثوانٍ، صمتٌ تسمع فيه دقات قلبك أقوى من أي صوت آخر. هو يحدّق بي بحدة وأنا أحاول أن أبدو متماسكًا، رغم الارتجاف الذي يتملّكني.
مدّ رأسه نحوي قليلًا وقال بصوتٍ غليظ متقطّع:
ــ «إيش جايبك لهنا؟ إيش اللي تدور عليه في بيتي؟»
كانت تلك اللحظة فاصلة. شعرت أنّه لن يفهم إلّا لو قلت له الحقيقة. جمعت ما تبقى من شجاعتي، وشعرت بمرارة الكلمات في حلقي وأنا أقول:
ــ «أنا… أنا عرفت كل شي، عرفت علاقتك بجدّتي…»
اتّسعت عيناه للحظة، وبدت الصدمة على ملامحه قبل أن يسيطر على نفسه. صوته هذه المرّة خرج منخفضًا، لكنه مشحون بتهديدٍ خفي:
ــ «انتبه لكلامك… وش تقصد؟»
رفعت عيني إلى عينيه مباشرة، رغم الارتباك:
ــ «أقصد اللي سمعته. أنت على علاقة بامرأة في عمر أمّك! هذه جدّتي، لازم تبتعد عنها فورًا. أنا ما جاي هنا أتجسس عليك ولا أفضحك، أنا جاي أحميها منك.»
تغيّر لون وجهه فجأة، ارتبك ثم حاول أن يتماسك. مشى ببطء في الغرفة، يمرّر يده على شعره، يعضّ على شفتيه. صوته خرج هذه المرة بلهجة مختلفة، كأنّه يفاوضني:
ــ «شوف يا ولد، ما *** مشاكل. أنا… أنا كنت ناوي أبعد عنها أصلاً. هي إنسانة طيبة، بس… خلاص. أنسى الموضوع. أطلع من بيتي الآن.»
كان يحاول أن يبدو هادئًا، لكنني رأيت الرعب في عينيه؛ الرعب من انكشاف أمره، من فضيحة قد تهدم كل شيء. اقترب مني أكثر، وضع يده الثقيلة على كتفي وضغط بقوة، صوته انخفض لكنه صار أكثر حدة:
ــ «اطلع. الآن. ولا تقول لأي أحد. اللي صار بيننا يوقف هنا.»
حاولت أن أبعد يده عن كتفي، لكنّه دفعني بقوة إلى الخلف. سقطت مرة أخرى، هذه المرة أحسست بألم حاد في ذراعي. رفع يده ثانية وضربني في صدري، لكنني لاحظت شيئًا غريبًا: كان يتعمّد أن تكون ضرباته في أماكن تغطيها الملابس، كأنه يريد أن يترك الألم بلا أثر مرئي، كأنه يخاف أن تظهر الكدمات فيفتضح أمره.
صوته كان يرتجف رغم صلابته الظاهرية:
ــ «اطلع من هنا قبل ما أغيّر كلامي.»
نهضت ببطء، أنظر إليه وأنا أتنفّس بصعوبة. كان المشهد كله خليطًا من الخوف والشفقة والغضب. لم أكن أعلم وقتها أنّ هذه اللحظة ستكون بداية النهاية لكل شيء بيننا.
مضت أيّام ثقيلة بعد المواجهة معه. صرت أمرّ بجانب الفيلا التي كانت مسرحًا لأسرار كثيرة، فأجدها غريبة عليّ. لم يعد طارق، سمسار العقارات الذي كان يدخلها ويخرج منها كصاحبها، موجودًا. بدلاً منه رأيت وجوهًا جديدة، مستأجرين غرباء ينشرون الغسيل في الشرفات ويملأون الحديقة بأصوات أطفالهم. كأن المكان محا أثره تمامًا، وكأنّ وجوده كان مجرد وهم.
في تلك الفترة تغيّرت علاقتي بجدّتي. لم تعد فقط عجوزًا تحنو عليّ وتدللني، بل صرت أراها امرأة بكل تفاصيلها. اقتربت منها أكثر، استمعت لقصصها كطفل، لكنني نظرت إليها كمراهقٍ يكتشف فجأة أنوثة قريبة منه أكثر مما يجب. كنت أهرب من عينيها أحيانًا، وأحيانًا أخرى أختبئ فيها، أنا أكثر من يرى جسدها بوضوح و لم يسبق لي التفكير فيه جنسيا، استحلامي رافقته والدتي في عقدة اوديبية أما جدتي لم تكن في بالي بهذه الطريقة يوما، كنت أعمى عن كتلات أثدائها البيضاء لون الكريمة، حجم شاسع ينفجر عندما تفك حمالات صدرها، و تطلقهما تحت الملابس البيتية،بطنها الممتلئة ذات الطبقات تضاريس العمر، أردافها العائدة للخلف كأنها تصافحك، أما وجهها، عيون عسلية كأنها شراب يذهب العقل، شفاهه تحمل تشققات عجوز بلون وردي فاتح يقرب للبياض، مع شعر أبيض كأنك تسبح في السحب البيضاء يوم شتاء .. شعور مربك، خليط من القرب والحب والدهشة، يملأ داخلي بصمتٍ لا أجرؤ على البوح به يقول أن جدتي تستحق أن تتمتع بما تبقى لها من عمر و الأولى أن أكون جديرا بها ..
و تواصلت ايضا مراقبتي لطارق، لم تكن مطاردتي لطارق السمسار بدافع الفضول، ولا رغبة في فضحه، بل شيء أعمق... شيء لا أفهمه تمامًا.
في البداية، كنت ألاحقه خلسة، أختبئ في زوايا الطرق، خلف جدران البيوت القديمة التي يشرف على تأجيرها. كنت أظنني أبحث عن خطأ، عن دليل على فساده، لكنه لم يكن يهمني إن كان مخطئًا أو مصيبًا.
شيئًا فشيئًا، بدأت أُفتن. طريقته مع النساء... كان يعرف كيف يزرع نفسه في قلوبهن، ثم في فروجهن.
أحببت سلوكه. أحببت سلطته غير المُعلنة. تمنيت لو كنت أنا هو.
راقبته طويلاً. نساء كثيرات، أغلبهن متزوجات، ينتظرنه خلف أبواب مواربة. كنت أراه كل مرة من زاوية جديدة، من فتحة جدار، من بين أشجار، من وراء ظلي.
في ذلك اليوم، كانت القرية خالية، كأنها أفرغت نفسها من الشهود، واحتفظت بي أنا فقط. كنت على دراجتي الهوائية، أتبعه كعادتي، وهو على دراجته النارية، يشق الطرق الترابية بثقة.
لكنه هذه المرة كان يشعر بي.
التفت أكثر من مرة، تردد في السير، ثم تسارع فجأة. كأنه قرر المواجهة.
في مفترق الطرق، سمعته يصرخ فجأة، نظرت أمامي، وإذا بسيارة مجهولة – لا أدري من أين ظهرت – تصدمه بقوة. تطاير جسده كريشة في مهب الريح، ثم سكن في منتصف الطريق.
ركنت دراجتي ببطء. لم أصرخ. لم أهرب. وقفت هناك أنظر إليه.
كنت الشاهد الوحيد. لا أحد غيري في هذا الفراغ.